منها : أن الإضمار خلاف الاصل.
وفيه نظر، لأنَّ هذا الإضمار في قوة المنطوق به، فلا يقال : هو خلاف الأصل، ألا ترى أن نحو :" قُمْ " و " ليقُمْ " فاعله مضمر، ولا يقال في شيء منه هو خلاف الأصل، وإنما الإضمار خلاف الأصل فيما كان حذفاً نحو :" وَاسْأَلِ القَرْيَةَ ".
ومنها : أنَّ هذا الضمير لا مرجع له، أي : ليس له شيء يعود عليه، فبطل أن يكون الفاعل ضميراً مستتراً.
وأجيب بأن الذي يعود عليه الضمير هو الموصولُ الأول، أي : فَلْيَحْذَر المُتَسَلِّلُونَ المخالفين عن أمره، فيكونون قد أمروا بالحذر منهم، أي : أُمرُوا باجتنابهم، كما يُؤْمَرُ باجتناب الفُسَّاقِ.
وردُّوا هذا بوجهين : أحدهما : أنَّ الضمير مفرد، والذي يعود عليه جمع، ففاتت المطابقةُ التي هي شرطٌ في تفسير الضمائر.
الثاني : أن المُتَسلِّلينَ هم المُخالِفُون، فلو أمروا بالحذر عن الذين يخالفون لكانوا قد أُمِرُوا بالحذر عن أنفسهم، وهو لا يجوز، لأنه لا يمكن أن يُؤْمَرُوا بالحذر عن أنفسهم.
ويمكن أن يُجاب عن الأول بأن الضمير وإن كان مفرداً فإنما عاد على جمع باعتبار أن المعنى : فليحذر هو، أي من ذكر قبل ذلك، وحكى سيبويه :" ضَرَبَني وضربت قومك " أي : ضَرَبَني من ثمَّ ومن ذكر، وهي مسألة معروفة في النحو.
أو يكون التقدير : فَلْيَحْذَر كلُّ واحد من المتسللين.
وعن الثاني : بأنه يجوز أن يُؤْمَر الإنسانُ بالحذر عن نفسه مجازاً، يعني : أنه لا يطاوعها على شهواتها، وما تُسوِّلُه له من السوء، وكأنه قيل : فليحذر المخالفون أنفسهم فلا يطيعوها فيما تأمرهم به، ولهذا يقال : أمَرَ نفسهُ ونَهَاهَا، وأَمرتهُ نفسهُ باعتبار المجاز.
٤٦٨
ومنها : أنه يصير قوله :﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مفلَّتاً ضائعاً، لأنَّ " يحذر " يتعدى لواحد، وقد أخذه على زعمكم، وهو الذين يخالفون ولا يتعدى إلى اثنين حتى يقولوا : إن ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ في محل مفعوله الثاني، فيبقى ضائعاً.
وفيه نظرٌ، لأنَّا لا نُسلِّم ضياعهُ، لأنه مفعول من أجله.
واعترض على هذا بأنه لا يستكمل شروط النصب لاختلاف الفاعل، لأن فاعل الحذر غير فاعل الإصابة.
وهو ضعيف، لأن حذف حرف الجر يطرد مع " أَنَّ " و " أَنْ " منقول مسلمٌ : شروط النصب غير موجودةٍ، وهو مجرور باللام تقديراً، وإنما حُذفت مع أَنْ لطولها بالصلة.
و " يُخَالِفُونَ " يتعدى بنفسه نحو : خَالَفْتُ أَمْر زيدٍ، وبـ " إِلَى " نحو : خالفتُ إلى كذا، فكيف تعدَّى هذا بحرفِ المجاورة ؟ وفيه أوجه : أحدها : أنه ضُمِّنَ معنى " صَدَّ " و " أَعْرَضَ " أي : صدَّ عن أمره، وأَعْرَضَ عنه مُخَالِفاً له.
الثاني : قال ابن عطية : معناه : يقعُ خلافُهُمْ بعدَ أَمْرِه، كما تقول : كان المطر عَنْ ريح كذا، و " عن " لِمَا عدا الشي.
الثالث : أنها مزيدة، أي : يخالفون أمره، وإليه نحا الأخفش وأبو عبيدة.
والزيادة خلافُ الأصل.
وقُرِئ :" يُخَلِّفُونَ " بالتشديد، ومفعوله محذوف، أي : يُخَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ.
فصل المعنى :﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ﴾ أي : يعرضون " عَنْ أَمْرِهِ "، أو يخالفون أمره وينصرفون عنه بغير إذنه ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي : لئلا تصيبهم فتنة.
قال مجاهد : بلاء في الدنيا.
﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وجيع في الآخرة.
والضمير في " أمره " يرجع إلى " الرسول ".
وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنه لله تعالى لأنه يليه.
٤٦٩
فصل الآية تدل على أن الأمر للوجوب، لأن تارك المأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
قوله تعالى :﴿أَلا اا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي : ملكاً وعبيداً، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما، وعلى ما بينهما وفيهما.
قوله :﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾.
قال الزمخشري : أدخل " قد " ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن " قد " إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى " رُبَّما " فوافقت " ربما " في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله : ٣٨٥٨ - فَإِنْ يُمْسي مَهْجُورَ الفَنَاءِ فَرُبَّمَا
أقام به بَعْدَ الوُفُودِ وُفُودُ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤٦٢
ونحو من ذلك قول زهير : ٣٨٥٩ - أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَهُ
وَلكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُه
قال أبو حيان : وكونُ " قَدْ " إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قولٌ لبعض النحاة، وليس بصحيح، وإنما التكثير مفهوم من السياق.
والصحيح أن رُبَّ لتقليل
٤٧٠


الصفحة التالية
Icon