قوله تعالى :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ااْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ﴾ الآية.
لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان، تكلم ههنا في مسألة النبوة، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد - ﷺ -.
فالشبهة الأولى : قوله :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ااْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾.
٤٧٧
قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث هو الذي قال هذا القول ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ يعني : عامر مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبير مولى عامر، هؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرؤون التوراة، فلما أسلموا، وكان النبي يتعهدهم، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال.
وقال الحسن : عبيد بن الحصر الحبشيّ الكاهر.
وقيل : جبر ويسار وعداء عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب، فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم.
قوله :" افتراه " الهاء تعود على " إفك " وقال أبو البقاء : الهاء تعود على " عبده " في أول السورة.
قال شهاب الدين : ولا أظنه إلا غلطاً وكأنه أراد أن يقول الضمير المرفوع في " افتراه " فغلط.
قوله " ظلماً " فيه أوجه : أحدها : أنه مفعول به، لأن جاء يتعدى بنفسه (وكذلك أتى).
والثاني : أنه على إسقاط الخافض، أي : جاءوا بظلم.
قاله الزجاج.
الثالث : أنه في موضع الحال، فيجيء فيه ما في قولك : جاء زيد عدلاً.
قال الزمخشري :﴿فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً﴾ أي : أتوا ظلماً وكذباً كقوله :﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً﴾ [مريم : ٨٩] فانتصب بوقوع المجيء.
أما كونه " ظلماً "
٤٧٨
فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وذلك هو الظلم.
وأما كونه " زوراً " فلأنهم كذبوا، قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول.
الشبهة الثانية : قوله تعالى :﴿وَقَالُوا ااْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.
اكْتَتَبَهَا﴾ الآية.
يجوز في " اكْتَتَبَهَا " ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون حالاً من " أساطير "، والعامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة المقدرة، فإن " أَسَاطِير " خبر مبتدأ محذوف، تقديره : هذه أساطير الأولين مكتتبة.
الثاني : أن يكون في موضع خبر ثان لـ " هذه ".
الثالث : أن يكون " أساطير " مبتدأ و " اكْتَتَبَها " خبره.
و " اكْتَتَبَها " الافتعال هنا يجوز أن يكون بمعنى : أمر بكتابتها كافتصد واحتجم إذا أمر بذلك ويجوز أن يكون بمعنى كتبها، وهو من جملة افترائهم عليه، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ويكون كقولهم :(استكبه واصطبه، أي : سكبه وصبه)، والافتعال مشعر بالتكليف.
ويجوز أن يكون من كتب بمعنى جمع من الكتب، وهو الجمع لا من الكتابة بالقلم.
وقرأ طلحة " اكتُتِبهَا " مبنياً للمفعول.
قال الزمخشري : والمعنى : اكتتبها له كاتب، لأنه كان أمياً لا يكتب بيده، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير، فصار اكتُتِبها إياه كاتب، كقوله :﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف : ١٥٥]، ثم بنى الفعل للضمير الذي هُوَ إيَّاه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار " اكتُتِبَها " كما ترى.
قال أبو حيان : ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين، لأن " اكتَتَبها " له
٤٧٩
كاتب، وصل الفعل فيه المفعولين : أحدهما : مسرح، وهو ضمير الأساطير والآخر مقيّد، وهو ضميره عليه السلام - ثم اتسع في الفعل، فحذف حرف الجر، فصار " اكْتَتَبَها إياه كاتبٌ "، فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً، لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً، فعلى هذا كان يكون التركيب (اكتَتَبه) لا (اكتَتَبها)، وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع، قال الفرزدق : ٣٨٦١ - ومنَّا الَّذِي اختير الرجال سماحةً
وجوداً إذا هبَّ الرياحُ الزّعازعُ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤٧٧
ولو جاء على ما قدره الزمخشري لجاء التركيب : ومنَّا الذي اختيره الرجال.
لأن (اختير) تعدى إلى الرجال بإسقاط حرف الجر ؛ إذ تقديره : اختير من الرجال.
وهو اعتراض حسن بالنسبة إلى مذهب الجمهور، ولكن الزمخشري قد لا يلتزمه، ويوافق الأخفش والكوفيين، وإذا كان الأخفش وهم يتركون المسرح لفظاً وتقديراً، ويقيمون المجرور بالحرف مع وجوده، فهذا أولى.
والظاهر أن الجملة من قوله ﴿اكتتبها فهي تملى﴾ من تتمة قول الكفار.
وعن الحسن أنها من كلام الباري تعالى، وكان حق الكلام على هذا أن يقرأ " أَكْتَتَبَها " بهمزة مقطوعة مفتوحة للاستفهام كقوله :﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ : ٨].
ويمكن أن يعتذر عنه أنه حذف الهمزة للعلم بها كقوله تعالى :﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء : ٢٢].
وقول الآخر :
٤٨٠
٣٨٦٢ - أفْرَحُ أَنْ أُرزأَ الكرام وأن
أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبلاَ