الأول : أن ما وعده فهو في تحققه كأنه قد كان ؛ ولأنه قد كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم (ومصيراً).
قوله :﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾ هو نظير قوله :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ﴾ [فصلت : ٣١]، ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ﴾ [الزخرف : ٧١].
فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله ﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾، وأيضاً فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب، (فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه)، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ﴾ [فصلت : ٣١]، وفي قوله :( ﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ﴾ ).
والجواب أن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم.
قوله :" خَالِدينَ " منصوب على الحال، إما من فاعل " يَشَاءونَ " وإما من فاعل " لَهُمْ "، لوقوعه خبراً، والعائد على " ما " محذوف، أي : لهم فيها الذي يشاءونه حال كونهم خالدين.
قوله :﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ﴾ في اسم " كَانَ " وجهان : أحدهما : أنه ضمير " ما يشاءون " ذكره أبو البقاء.
والثاني : أن يعود على الوعد المفهوم من قوله " وُعِدَ المُتَّقُونَ ".
و " مَسْؤولاً " على المجاز، يسأل هل وفى لك أم لا، أو يسأله من وعد به.
فصل قوله :﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً﴾ يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما تقدم.
وقوله :" مَسْؤولاً " أي : مطلوباً، قيل : إن المتقين سألوا
٤٩٢
ربهم في الدنيا فقالوا :﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ [آل عمران : ١٩٤] وقال محمد بن كعب القرظي : الملائكة سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم :﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ﴾ [غافر : ٨].
وقيل : إن المكلفين سألوه بلسان الحال ؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال، قال المتنبي : ٣٨٦٧ - وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ
سُكُوتِي كَلاَمٌ عَنْدَهَا وَخِطَابُ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤٩١
وقيل :" وَعْداً مَسؤولاً " أي : واجباً وإن لم يسأل.
قاله الفراء وقيل :" مَسْؤولاً " أي : من حقه أن يكون مسؤولاً، لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٤٩١
قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الآية قرأ ابن عامر " نَحْشَرُهُمْ...
فَنَقُولُ " بالنون فيهما، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني.
وهُنّ واضحات.
٤٩٣
وقرأ الأعرج " نَحْشِرهُمْ " بكسر الشين في جميع القرآن.
قال ابن عطية : هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين.
وقال أبو الفضل الرازي : وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية ؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فَعُل بضمها في الماضي.
قال أبو حيان : وليس كما ذكرا بل فعل المُتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعِل ويفعُل كثيراً، فإن شُهِرَ أحد الاستعمالين اتُّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيَّر فيهما سُمِعَا للكلمة أم لم يُسْمَعَا.
قال شهاب الدين : الذي خيَّر في ذلك ابن عصفور، فيجيز أن يقول : زيد يفعِل بكسر العين، ويَضْرِب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني وسبقه إلى ذلك ابن درستويه (إلا أن) النحاة على خلافه.
قوله :" وَمَا يَعْبُدُونَ " عطف على مفعول " يَحْشُرُهُمْ "، ويضعف نصبه على المعية، وغلب غير العاقل عليه فأتي بـ " ما " دون " من ".
٤٩٤