قوله تعالى :﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ الآية.
لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها : أنه حي لا يموت، وأنه عالم بجميع المعلومات بقوله ﴿وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان : ٥٨] ومنها أنه قادر على كل الممكنات، وهو قوله :﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ وهذا متصل بقوله :﴿الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ﴾ [الفرقان : ٥٨] لأنه سبحانه لما كان خالقاً للسموات والأرض ولكل ما بينهما ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه.
و " الَّذِي خَلَقَ " يجوز أن يكون مبتدأ، و " الرَّحْمَنُ " خبره، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر، أي : هو الذي
٥٥٤
خلق، وأن يكون منصوباً بفعل مضمر، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت، أو بدلاً، أو بياناً هذا على قراءة " الرَّحْمَنُ " بالرفع ومن قرأه بالجر فيتعين أن يكون " الَّذِي خَلَقَ " صفة للحي فقط.
قوله :﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ فيه سؤال، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل السموات لاً أيام، فكيف قال : خلقها في ستة أيام ؟ والجواب : في مدة مقدارها (هذه المدة)، لا يقال : الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان، لأنا نقول : هذا معارض بنفس الزمان، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى، فلما لم يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه، وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام.
وقيل : في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة.
وهو بعيد، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول.
فإن قيل : لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار ؟ فالجواب على قول أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص، وقالت المعتزلة : لا بد وأن يكون من حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح، وهذا بعيد لوجهين : الأول : أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً، فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لزمان معين، وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر، ولزم التسلسل.
والثاني : أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح.
٥٥٥
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة، فإنه بحر لا ساحل له، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر، وحملة العرش بثمانية، والسموات بالسبع، وعدد الصلوات، ومقادير النصب في الزكوات، وكذا في الحدود، والكفارات، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين، والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى :﴿وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا ااْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلاً﴾ [المدثر : ٣١] ثم قال :﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر : ٣١]، وهو الجواب أيضاً في أنه لِمَ لَمْ يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك.
وعن سعيد بن جبير : إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت.
وقيل : ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين.
قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة ؛ لأن أوصاف الله لم تزل، فلا يصح دخول " ثُمَّ " فيه.
ولا على الاستقرار، لأنه يقتضي التغيير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب، وكل ذلك على الله محال، بل المراد أنه خلق العرش ورفعه.
فإن قيل : يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى :﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ﴾ [هود : ٧].
فالجواب : كلمة " ثُمَّ " ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات.
قوله :" الرَّحْمَنُ " قرأ العامة بالرفع، وفيه أوجه : أحدها : أنه خبر " الَّذِي "، أو خبر مبتدأ مضمر، أي : الرحمن، ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن، أي : هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، أو يكون بدلاً من الضمير في " استوى " أو يكون مبتدأ وخبره
٥٥٦
الجملة من قوله " فَاسْأَلْ " على رأي الأخفش كقوله :