و " مُسْتَقرًّا وَمُقَاماً " قيل : مترادفان، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما.
وقيل : بل هما مختلفا المعنى، فالمستقرُّ للعصاة، فإنهم يخرجون، والمقام للكُفَّار فإنهم مخلدون.
فإن قيل : إنهم سألوا الله أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين : إحداهما : أن عذابها كان غراماً.
والثانية : أنها ساءت مستقراً ومقاماً فما الفرق بين الوجهين ؟ فالجواب : قال المتكلمون : عقاب الكافر يجب أن يكون مضرّة خالصة عن شوائب النفع (دائمة، فقوله :﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ إشارة إلى كونه مضرّة خالصة عن شوائب النفع) وقوله :﴿إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ إشارة إلى كونه دائماً، فحصلت المغايرة.
وقرأت فرقة " مَقَاماً " بفتح الميم، أي : مكان قيام.
وقراءة العامة هي المطابقة للمعنى، أي : مكان إقامة وثُوِيٍّ.
وقوله :﴿إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً﴾ يحتمل أن يكون من كلامهم، فتكون منصوبة المحل بالقول، وأن يكون من كلام الله تعالى.
قوله :﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾.
قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء من يَقْتُرُوا، وابن كثير وأبو عمرو بالفتح والكسر، ونافع وابن عامر بالضم والكسر من أقتر، وعليه ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة : ٢٣٦] وأنكر أبو حاتم أقْتَرَ، وقال : لا يناسب هنا، فإن أَقْتَرَ بمعنى افتقر، ومنه ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة : ٢٣٦] وردَّ عليه بأن الأصمعي وغيره حكوا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّقَ.
وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر
٥٦٦
التاء مشددة من قَتَّر بمعنى ضيَّق، وكلها لغات، والقَتْر والإقْتَار والتَّقْتير (التضييق الذي هو نقيض) الإسراف، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة.
فصل المراد من الآية القصد بين الغلو والتقصير، كقوله تعالى :﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء : ٢٩].
وسأل ابن الورد بعض العلماء ما البناء الذي لا سَرَف فيه ؟ قال : ما سترك عن الشمس، وأكنَّك من المطر.
وقال له ما الطعام الذي لا سرف فيه ؟ فقال : ما سد الجوعة، وقال له في اللباس : ما ستر عورتك وأدفأك من البرد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : الإسراف في النفقة في معصية الله تعالى، والإقتار : منع حق الله تعالى.
قال مجاهد : لو أنفق الرجل مثل (أبي) قبيس ذهباً في طاعة الله لم يكن مسرفاً.
وأنشدوا : ٣٨٨٩ - ذِهَابَ المَالِ في حَمْدٍ وَأَجْرٍ
ذِهَابٌ لاَ يُقَالُ لَهُ ذِهَابُ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٥٦٢
وقيل : السرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع وإن كان من حلال، لأنه يؤدي إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
٥٦٧
قوله :﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ في اسم " كان " وجهان : أشهرهما : أنه ضمير يعود على الإنفاق المفهوم من قوله " أَنْفَقُوا ".
أي : وكان إِنْفَاقهم مستوياً قصداً لا إسرافاً ولا تقتيراً، وفي خبرها وجهان : أحدهما : هو " قَوَاماً " و " بَيْنَ ذَلِكَ " إما معمول له، وإما لـ " كان " عند من يرى إعمالها في الظرف، وإما المحذوف على أنه حال من " قَوَاماً "، ويجوز أن يكون ﴿بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾، خبرين لـ " كان " عند من يرى ذلك، وهم الجمهور خلافاً لابن درستويه.
والثاني : أن الخبر " بَيْنَ ذَلِكَ " و " قَوَاماً " حال مؤكدة.
والثاني من الوجهين الأولين : أن يكون اسمها " بَيْنَ ذَلِكَ " وبُنِيَ لإضافته إلى غير متمكنٍ، و " قَوَاماً " خبرها قاله الفراء.
قال الزمخشري : وهو من جهة الإعراب لا بأس به (ولكنه من جهة المعنى) ليس بقوي ؛ لأن ما بين الإسراف والتقتير قَوامٌ لا محالة فليس في الخبر الذي هو مُعْتَمَدُ الفائدة فائدةٌ.
قال شهاب الدين : وهو يشبه قولك : كان سيِّد الجارية مالكها.
قال ثعلب : القوام - بالفتح - (العدل والاستقامة، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر.
وقال الزمخشري : القوام) العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص.
وقرأ حسان بن عبد الرحمن " قِوَاماً " يكسر القاف، فقيل : هما بمعنى، وقيل : بالكسر اسم ما يقام به الشيء وقيل : بمعنى سداداً وملاكاً.
٥٦٨
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٥٦٢