قوله تعالى :﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.
لما حكى عن إبراهيم عليه السلام - ثناءه على الله - ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته، وذلك تبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقتصر إبراهيم على الثناء ولا سيما يروى عنه أنه قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ؟ فالجواب : أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق لأنه قال :﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء : ٧٧] ثم ذكر الثناء، ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع، فأما حين (ما) خلا بنفسه ولم يكن غرضه
٤٦
تعلم الشرع اقتصر على قوله :" حسبي من سؤالي علمه بحالي " واعلم أن قوله :﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ أجابه الله تعالى بقوله ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة : ١٣٠].
والمراد بـ " الحكم " : إدراك الحق والعلم، لأن النبوة كانت حاصلة له، وتحصيل الحاصل محال، وهذا قول مقاتل.
وقال ابن عباس : معرفة حدود الله وأحكامه.
وقال الكلبي : النبوّة " وَأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ " من قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة.
قوله :﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ﴾.
أي : ثناء حسناً، وذكراً جميلاً، وقبولاً عاماً في الأمم التي تجيء بعدي.
قال ابن عباس : أعطاه الله بقوله :﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ [الصافات : ١٠٨] فأهل الأديان يتولونه ويثنون عليه.
قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به.
وقيل : المراد منه : أن يجعل في ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد - عليه السلام - فالمراد من قوله :﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ﴾ بعثه محمد - ﷺ -.
قوله :﴿وَاجْعَلْنِي (مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ " مِنْ وَرَثَةِ " إما أن يكون مفعولاً ثانياً، أي : مستقراً أو كائناً من ورثة.
وإما أن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني، أي : وارثاً من ورثة.
واعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
قوله :﴿وَاغْفِرْ لأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ﴾.
لما فرغ من طلب السعادت الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به، وهو أبوه، وفيه وجهان : الأول : أن المغفرة مشروط بالإسلام، وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله " واغْفِر لأَبِي " كأنه دعاء له بالإسلام.
٤٧
الثاني : أن أباه وعده بالإسلام لقوله :﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ [التوبة : ١٤] فدعا له قبل أن يتبين له (أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّه)، كما سبق في سورة التوبة.
وقيل : إن أباه قال له : إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقيَّة وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ولذلك قال في دعائه :﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ﴾ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك.
قوله :﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ (قال الزمخشري) : الإخزاء من الخزي، وهو الهوان، ومن الخزاية، وهي الحياء.
وهذه الآية تدل على أنه لا يجب على الله شيء كما تقدم في قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾.
فإن قيل : لما قال أولاً :﴿وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ كان كافياً عن قوله :﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾.
وأيضاً فقد قال الله تعالى :﴿إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّواءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [النحل : ٢٧] فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم ؟ فالجواب : أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكذا درجات الأبرار خزي المقربين، وخزي كل واحد بما يليق به.
قال الزمخشري : في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم، أو ضمير الضالين.
قوله :﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ...
الآية﴾
.
﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ﴾ بدل من " يوم " قبله وجعل ابن عطية هذا من كلام الله تعالى إلى آخر الآيات مع إعرابه ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ﴾ بدلا من " يَوْمَ يُبَعَثُون ".
وردّه أبو حيان بأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه آو آخر مثله مقدر.
وعلى كلا هذين القولين لا يصح لاختلاف المتكلمين.
واعلم أن الله تعالى قد أكرمه بهذا الوصف حيث قال :﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات : ٨٣ - ٨٤].
قوله :﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ﴾ فيه أوجه : أحدها : أنه منقطع، أي ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ فإنه ينفعه ذلك.
وقال الزمخشري : ولا بد مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها سلامة
٤٨


الصفحة التالية
Icon