توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه، (وليس لهذه) الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة إبراهيم وموسى ونوح وسائر القصص، فكيف خَصَّ هذه القصة بهذه الوجوه دون سائِر القصص.
وإذا ثبت أن هذه الوجوه هي ذلك الوجه المشهور فالجواب عنها هما الجوابان المشهوران : الأول : أنَّ اللَّهَ تعالى لمّا علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال، لأَنّ عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً، وهو محال، والمفضي إلى المحال محال، وإن كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال.
الثاني : أنَّ القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يرجح أحد المقدورين على الآخر لا لمرجح، والمرجح : هو الداعي والإرادة، وذلك المرجح مرجح محدث، فله مؤثر، وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل، وهو محال، وإن كان هو الله تعالى فذاك الجبر على قولك، فثبت بهذين البرهانيين القاطعين سقوط ما قاله.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٦٧
قوله تعالى :﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ﴾.
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر :" لَيْكَةَ " بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير مُعَرَّفٍ بـ " أل " مضافاً إليه " أَصْحَاب " هنا وفي " ص " خاصة.
والباقون :" الأَيْكَةِ " معرفاً بـ " أل " مُوافقةً لما أُجْمَعَ عليه في الحِجْر وفي " ق ".
٧٠
وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى، وتجرأ بعضهم على قرائها.
ووَجْهُهَا على ما قال أبو عُبَيد : أن (ليكة) اسم للقرية التي كانوا فيها و(الأَيْكَة).
اسم للبلد كُلِّه.
قال أبو عُبَيد : لا أحب مفارقة الخط في شيءٍ من القرآن إلاَّ ما يخرُجُ من كلام العرب وهذا ليس بخارج من كلامها مع صحة المعنى في هذه الحروف، وذلك أَنَّا وجدنا في بعض التفاسير الفرق بين " لَيْكَة "، و " الأيكة "، فقيل :" لَيْكَةُ " هو اسمٌ للقرية التي كانوا فيها.
والأَيْكَة : البلاد كلها، فصار الفرق بينهما شبيهاً بما بين (مَكَّةَ، وبكَّةَ) ورأيتهن مع هذا في الذي يقال : إنه الإمام - مصحف عثمان - مفترقان، فوجدت التي في " الحِجْر " والتي في " ق " :" الأَيْكَة "، ووجدت التي في " الشعراء " والتي في " ص " " لَيْكَة " ثم اجتمعت عليها مصاحف الأَمْصَار بعدُ، فلا نعلمها إذاً اختلفت فيها، وقرأ أهل المدينة على هذا اللفظ الذي قَصَصْنا، يعني : بغير ألف ولام، ولا إجراء.
انتهى ما قاله أبو عبيدة.
قال أبو شامة بعد نقله كلام أبي عبيدة : هذه عبارته، وليست سديدة، فإن اللام موجودة في " لَيْكَة " وصوابه : بغير ألف وهمزة.
قال شهاب الدين : بل هي سديدة، فإنه يعني بغير ألفٍ ولامٍ مُعَرفَةٍ لا مطلق لامٍ في الجملة.
وقد تُعقِّبَ قول أبي عُبيد وأنكروا عليه، فقال أبو جعفر : اجمع القراء على خفض التي في " الحِجر " و " ق " فيجب أن يُرَدَّ ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه إذ كان البلد كله، فشيء لا يثبت ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله ولو عُرِف لكان فيه نظر، لأَنَّ أهل العلم جميعاً من المفسرين والعالمين بكلام العرب على خلافه، ولا نعلم خلافاً بين أهل اللغة أن " الأَيْكَة " الشجر المُلْتَفُّ.
فأما احتجاج بعض من احتج لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح، لأنه في السواد " لَيْكَةَ " فلا حجة فيه، والقول فيه : إن أصله :" الأَيْكَة " ثم خففت الهمزة،
٧١
فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل، لأَنَّ اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إِلاَّ الخفض، كما تقول :" مَرَرْتُ بِالأَحْمَر " على تحقيق الهمزة ثم تخففها فتقول :" بِلحْمَر "، فإن شئت كتبته في الخط على كتبته أولاً، وإِنْ شئت كتبته بالحذف، ولم يَجُرْ إلاَّ الخف، فلذلك لا يجوز في " الأَيْكَة " إلاَّ الخَفْض، قال سيبويه : واعلم أَنَّ كل ما لم ينصرف إذا دَخَلَتْهُ الألف واللام أو أضفته (انصرف).
ولا نعلم أحداً خالف سيبويه في هذا وقال المبرّد في كتاب الخط : كتبوا في بعض المواضع :" كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ} بغير ألف، لأن الألف تذهب في الوصل، ولذلك غلط القارىء بالفتح فتوهم أن " لَيْكَة " اسم شيء، وأن اللام أصل فقرأ :" أَصْحَابُ لَيْكَة ".
؟ وقال الفراء : نرى - والله أعلم - أنها كتبت في هذين الموضعين بترك الهمز، فسقطت الألفُ لتحريك اللام.
قال مكيّ : تعقَّبَ ابن قتيبة على أبي عبيدة فاختار " الأَيْكَة " بالألف والهمزة والخفض، وقال : إِنَّمَا كُتِبَتْ بغير ألف على تخفيف الهمزة، قال : وقد أجمع الناس على ذلك، يعني : في " الحِجْر " و " ق " فوجب أن يُلحَق ما في " الشعراء " و " ص " بما أجمعُوا عليه، فما أجمعوا عليه شاهد لما اختلفوا فيه.
وقال أبو إسحاق : القراءة بِجَرِّ لَيْكَةِ وأنت تريد " الأَيْكَةِ " أجود من أن تجعلها " لَيْكَه " وتفتحها ؛ لأَنَّها لا تتصرف لأن " لَيْكَة " لا تُعرَّفُ، وإنما هي " أَيْكَة " للواحد،
٧٢


الصفحة التالية
Icon