فأما قراءة الفاء فإنه جُعِل فيها ما بعد الفاء كالجزاء لما قبلها مترتباً عليه.
وقراءة الواو لمجرد عطف جملة على أخرى.
والتوكل : عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يكل أمره ويقدر على نفعه وضره.
ثم قال :﴿عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ليكفيك كيد الأعداء بعزته وينصرك عليهم برحمته.
قوله :" الَّذِي يَرَاَكَ " يجوز أن يكون مرفوع المحل خبراً لمبتدأ محذوف، أو منصوبه على المدح، أو مجرورة على النعت أو البدل أو البيان.
قال أكثر المفسرين : معناه : يراك حين تقوم إلى صلاتك.
وقال مجاهد : يراك أينما كنت.
وقيل : حين تقوم لدعائهم.
قوله :" وَتَقَلُّبَكَ ".
عطف على مفعول " يَرَاكَ " أي : ويرى تَقَلُّبَكَ، وهذه قراءة العامة.
وقرأ جماح بن حبيش بالياء من تحت مضمومة، وكسر اللام، ورفع الباء، جعله فعلاً، مضارع (قَلَّبَ) بالتشديد، وعطفه على المضارع قبله، وهو " يَرَاكَ " أي : الذي يُقَلِّبُكَ.
فصل معنى تقلبه أي : تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك، قال عكرمة وعطية عن ابن عباس :" فِي السَّاجِدِينَ " أي : في المصلين.
وقال مقاتل والكلبي : أي : مع المصلين في الجماعة، أي : يراك حين تقوم وحدك للصلاة، ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة.
وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين، فإِنَّهُ كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه.
قال عليه السلام :" واللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ ولا رُكُوعُكُمْ، وإِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي " وقال الحسن :" تقلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ " أي : تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين.
وقال سعيد بن جبير : يعني : وتصرّفك في
٩٥
أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك.
والسَّاجدون : هم الأنبياء.
وقال عطاء عن ابن عباس : أراد : وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ السميع لما تقوله، العليم بما تنويه.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٩٢
قوله تعالى :﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ الآية.
أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين : الأول : قوله :﴿تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ كما تقدم من أنَّ الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة منه.
والثاني : قوله :﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ ومعناه : أنهم كانوا يقيسمون حال النبي - ﷺ - على حال الكهنة (فكأنه قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب، فجيب أن تكون حال الرسول كذلك، فلما لم يظهر في إخبار الرسول عن المغيبات إلا الصدق علمنا أنَّ حاله بخلاف حال الكهنة).
قوله :" عَلَى مَنْ " متعلق بـ " تَنَزَّلُ " بعده.
وإنما قُدِّم، لأَنَّ له صدر الكلام، وهو مُعلقٌ لما قبله من فِعْل التَّنْبِئَة، لأنها بمعنى العلم.
ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين، فتسد الجملة المشتملةُ على الاستفهام مسدّ الثاني، لأنَّ الأول ضمير المخاطبين.
وأن تكون متعديةً لثلاثة فتسد مسدّ اثنين.
وقرأ البَزِّيُّ :﴿عَلَى مَنْ تَّنزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَّنَزَّلُ﴾ بتشديد التاء من " تنزل " في الموضعين والأصل :" تَتَنَزَّل " بتاءين فأدغم، والإدغام في الثاني سهل، لتحرك ما قبل المدغم، وفي الأول صُعُوبةٌ لسكون ما قبله وهو نُونُ " مَنْ ".
وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله :﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ﴾ [البقرة : ٢٦٧].
قوله :" يُلْقُونَ ".
يجوز أن يعود الضمير على " الشَّيَاطِين " فيجوز أن تكون الجملة " يُلْقُونَ " حالاً، وأن تكون مستأنفة.
ومعنى إلقائهم السمعَ : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُوا شيئاً، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة.
٦٩
ويجوز أن يعود على ﴿كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ من حيث إنه جمعٌ في المعنىن فتكون الجملة إما مستأنفة، وأما صفة لـ " كُلِّ أَفَّاكٍ ".
ومعنى الإلقاء ما تقدم.
وقال أبو حيان : حال عود الضمير على " الشَّيَاطين "، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال : فعلى معنى الإنصات يكون " يُلْقُونَ " استئناف إخبارٍ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف، واحتمل الحال من " الشَّيَاطِينَ " أي : تَنزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا.
انتهى.
وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ، لأنَّ جواز الوجهين جارٍ في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل، فإن قيل : كيف قال :" وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ " بعد ما حكم عليهم أنَّ كل واحد منهم أفّاك ؟ فالجواب : أنَّ الأَفاكين هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم يفتري عليه.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٦٩


الصفحة التالية
Icon