قوله تعالى :﴿وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾.
قد تقدم أن نافعاً بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قوله :" لا يَتَّبِعُوكُمْ " والفرق بين المخفف والمثقل.
وسكن الحسنُ العينَ، ورويت عن أبي عمرو، وليست ببعيدة عنه كـ " يَنْصُرْكُمْ " وبابه وروى هارون عن بعضهم نصب العين، وهي غلط،
٩٧
والقول بأن الفتحة للإتباع خطأ، والعامة على رفع " الشُّعَرَاءُ " بالابتداء، والجملة بعده الخبر.
وقرأ عيسى بالنصب على الاشتغال.
فصل لمّا قال الكفار : لم لا يجوز أن يقالك الشياطين تنزل بالقرآن على محمد، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة، وعلى الشعراء بالشعر ؟ ثم إنه تعالى فرق بين محمد - عليه السلام - وبين الكهنة، ذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه وبين الشعراء : بأن الشعراء يتبعهم الغاوون، وهم : الضالون : ثم بيَّن أنَّ ذلك لا يمكن القول به لأمرين : الأول :﴿أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ والمراد منه : الطرق المختلفة، كقولك : أنا في يعظمونه بعدما يستحقرونه وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق، بخلاف أمر محمد - عليه السلام - فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحدة، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا.
والثاني :﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾.
وذلك أيضاً من علامات الغواية، فإنهم يرغِّبُون في الجود، ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصيرون إليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم وعن واحد من أسلافهم.
ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة، وأما محمد - عليه السلام - فإنه بدأ بنفسه ﴿فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء : ٢١٣] ثم بالأقرب فالأقرب فقال :﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء : ٢١٤] وكل ذلك خلاف طريقة الشعراء، فظهر بهذا البيان أنَّ حال محمد - عليه السلام - لم يشبه حال الشعراء.
قوله :" يَهِيمُونَ ".
يجوز أن تكون هذه الجملة خبر " أَنَّ " وهذا هو الظاهر، لأنه محط الفائدة، و " فِي كُلِّ وَادٍ " متعلق به.
ويجوز أن يكون ﴿فِي كُلِّ وَادٍ﴾ هو الخبر، أو نفس الجار كما تقدم في نظيره.
ويجوز أن تكون الجملة خبراً بعد خبر عند من يَرَى تَعَدُّد
٩٨
الخبر مطلقاً.
وهذا من باب الاستعارة البليغة، والتمثيل الرائع، شبَّه جَوَلاَنَهم في أفانين القول، وطرائق المدح والذم، والتشبيب، وأنواع الشعر بِهَيْمِ الهائم في كل وجهٍ وطريق.
وقيل : أراد بـ " كُلِّ وَادٍ " أي : على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون (القوافي).
والهائم : الذي : يَخبِطُ في سَيْرِهِ ولا يقصد موضعاً معيناً، يقال هام على وجهه، أي : ذهب والهائم : العاشق من ذلك، والهَيْمَان : العطشان والهُيَامُ داءٌ يأخذ الإبلَ من العطش، وجَمَلٌ أَهْيَمُ وناقةٌ هَيْمَاءُ والجمع فيهما هِيمٌ قال تعالى :" شُرْبَ الهِيم " من الرمل : اليابس، فإنهم يخيلون فيه معنى العطش.
فصل قال المفسرون : أراد شعراء الكفار، وكانوا يهجون رسول الله - ﷺ - وذكر مقاتل أسمائهم فقال : منهم عبد الله بن الزِّبعرَى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا : نحن نقول كما قال محمد، وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يشمعون أشعارهم حين يهجون رسول الله - ﷺ - وأصحابه، ويروون عنهم ذلك فذلك قوله :" يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ " وهم الرواة الذين يريدون هجاء المسلمين.
وقال قتادة : هم الشياطين.
ثم إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف استثنى شعراء المسلمين الذي كانوا يجيبون شعراء الجاهلية، ويهجون الكفار ويكافحون عن النبي - ﷺ - وأصحابه منهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، فقال :﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾.
روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - ﷺ - " إِنَّ اللَّهَ قد أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال : النبي ﷺ - :" إِنَّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نصح النبل " وفي رواية قال له :" اهْجُهُمْ فالواذي نفسي بيده هو أشد عليهم من النبل " وكان يقول لحسان :" قُلْ فإنَّ روح القدس معك ".
٩٩


الصفحة التالية
Icon