فصل المعنى لتؤتاه وتلقنه من عند أي حكيم وأي عليم، وهذا معنى مجيئهما منكرتين، وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من القصص كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، فإن قيل : الحكمة إما أن تكون نفس العلم، وإما أن يكون العلم داخلاً فيها، فبعد ذكر الحكمة لم ذكر العلم ؟ فالجواب : أن الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط، والعلم أعم منه ؛ لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً، والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية، فذكر الحكمة على العموم ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم، وكمال العلم من جهات ثلاثة : وحدتها، وعمون تعلقها بكل المعلومات، وبقاؤها مصونة عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه (سبحانه).
قوله تعالى :﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ...
الآيات، يجوز أن يكون " إذْ " منصوباً بإضمار اذكر، أو (يعلم) مقدر مدلولا عليه بـ " عليم "، (أو بـ " عليم " ) وفيه ضعف لتقيد الصفة بهذا الظرف.
فصل ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ﴾ في مسيره من مدين إلى مصر، قيل : إنه لم يكن مع موسى - عليه السلام - غير امرأته ابنة شعيب - عليه السلام -، وقد كنى الله عنها بالأهل، فتبع لك ورود الخطاب بلفظ الجمع، وهو قوله :﴿امْكُثُوا ااْ إِنِّى آنَسْتُ نَاراً﴾ [طه : ١٠] : أبصرت ناراً، وذلك أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما، والوقت وقت برد، وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار لما يرجى فيها من
١١٠
زوال الحيرة في أمر الطريق، ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء، فلذلك بشرها فقال :﴿إِنِّى آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ والخبر : ما يخبر به عن حال الطريق ؛ لأنه كان قد ضله.
ثم في كلام حذف، وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها، وقال : سآتيكم منها بخبر يعرف به الطريق.
قوله :﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ قرأ الكوفيون بتنوين " شِهَاب "، على أن " قَبَس " بدل من " شِهَابٍ " أو صفة له، لأنه بمعنى مقبوس، كالقبض والنفض، والباقون بالإضافة على البيان، لأنَّ الشِّهاب يكون قبساً وغيره.
والشِّهَابُ : الشُّعلة، والقَبَسُ : القطعة منها يكون في عودٍ وغير عود.
و " أو " : على بابها من التنويع، والطاء في " تَصْطَلُونَ " : يدل من تاء الافتعال، لأنه من صَلِيَ بالنار.
فإن قيل : قال هاهنا :﴿سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾، وفي موضع آخر، ﴿لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ﴾ [القصص : ٢٩] وهما كالمتدافعين، لأن أحدهما تَرَجٍّ والآخر تيقن.
فالجواب : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا، وسيكون كذا،
١١١
مع تجويزه الخيبة.
فإن قيل : كيف جاء بسين التسويف ؟ فالجواب : عدة لأهله أنه يأتيهم به، وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة، وأدخل " أو " بين الأمرين المقصودين، يعني الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين، ظفر بأحدهما، إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، ثقة منه بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده.
" لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ " تستدفئون من البرد.
قوله :" نُودِي " في القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه : أحدها : أنه ضمير موسى، وهو الظاهر، وفي " أن " حينئذ ثلاثة أوجه : أحدها : أنها المفسرة، لتقدم ماهو بمعنى القول.
والثاني : أنها الناصبة للمضارع، ولكن وصلت هنا بالماضي، وتقدم تحقيق ذلك، وذلك على إسقاط الخافض، أي : نودي موسى بأن بورك.
الثالث : إنها المخففة، واسمها ضمير الشأن، و " بورك " خبرها، ولم يحتج هنا إلى فاصل، لأنه دعاء، وقد تقدم نحوه في النور، في قوله :﴿أَنَّ غَضَبَ﴾ [النور : ٩] - في قراءته فعلاً ماضياً - قال الزمخشري : فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، اولتقدير : بأنه بورك، والشمير ضمير الشأن والقصة ؟ قلت : لا ؛ لأنَّه لا بدَّ من (قَدْ)، فإن قلت : فعلى إضمارها ؟ قلت : لا يصحّن لأنها علامة، والعلامة لا تحذف انتهى.
فمنع أن تكون مخففة لما ذكر، وهذا بناء منه على أنَّ " بُورِكَ " خبر لا دعاء، أما إذا قلنا إنه دعاءكما تقدم في النور فلا حاجة إلى (الفاصل كما تقدم، وقد تقدم فيه استشكال، وهو الطلب أن لا يقع خبراً في هذا الباب، فكيف وقع هذا خبراً لـ(أن) المخففة، وهو دعاء.
الثاني من الأوجة الأول : انَّ القائم مقام) الفاعل نفس " أَنْ بُورِكَ " على حذف حرف الجرّ، أي : بأن بورك، فـ(أَنْ) حينئذ إمّا ناصبة في الأصل، وإمّا مخففة.
١١٢
الثالث : أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل، أي : نودي النِّداء، ثم فسِّر بما بعده ومثله ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف : ٣٥].
قوله :﴿مَنْ فِي النَّارِ﴾ مَنْ قَائمٌ مقام الفاعل لـ " بُورِكَ "، وبَارَكَ يتعدى بنفسه، ولذلك بُنِيَ للمفعول، يقال : بَارَكك اللَّهُ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وبَارَكَ فِيكَ، وَبَارَكَ لَكَ، وقال الشاعر : ٣٩٣٠ - فَبُورِكْتَ مَولُوداً وبُورِكْتَ نَاشِئاً


الصفحة التالية
Icon