وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون ضمير ربِّ : أي : إن الرب أنا الله، فيكون " أنَا " فصلاً أو توكيداً أو خبر إن، والله بدل منه.
وقيل : الهاء في قوله " إنَّهُ " عماد، وليست كناية، فإن قيل : هذا النداء قد يجوز أن يكون من عند غير الله، فكيف علم موسى أنه من الله ؟ فالجواب : لأهل السنة فيه طريقان : الأول : أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة كلام المخلوقين، فعلم بالضرورة أنه صفة الله.
الثاني : قول أئمة ما وراء النهر، وهو أنه - عليه السلام - سمع الصوت من الشجرة، فنقول : إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور : أحدها : أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة، علم أنه من قبل الله تعالى : لأن أحداً منا لا يقدر عليه، وهذا ضعيف، لاحتمال أن الشيطان دخل في النار والشجرة، ثم نادى.
والثاني : يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً، وهو أيضاً ضعيف، لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين، فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم.
وثالثها : أنه قد يقترن به معجز دل على ذلك، وقيل : إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك لكالمعجزة وهذا أيضاً في غاية الضعف والبعد، لأنه كيف تنادي النار أو الشجرة، وتقول : يا موسى إني أنا ربك، أو إني أنا الله رب العالمين!!
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ١٠٩
قوله :﴿وَأَلْقِ﴾ عطف على ما قبله من الجملة الاسمية الخبرية، وقد تقدم أن سيبويه لا يشترط تناسب الجمل، وأنه يجيز : جاء زيدٌ ومن أبوك، وتقدمت أدلته أول البقرة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف قوله :" وَأَلْقِ عَصَاكَ " ؟ قلت : على قوله :
١١٦
" بُورِكَ " لأن معنى : نودي أن بورك، وقيل له : ألق عصاك، والدليل على ذلك قوله :﴿وأن ألق عصاك﴾، بعد قوله : أن يا موسى إني أنا الله على تكرير حرف التفسير، كما يقول : كتبت إليه أن حجَّ واعتمر، وإن شئت، أن حجَّ وأن اعتمر.
قال أبو حيان : وقوله إنه معطوف على " بُورِكَ " مُنَافٍ لتقديره، وقيل له : ألق عصاك، لأن هذه جملة معطوفة على " بُورِكَ " وليس جزؤها الذي هو معمول، وقيل : معطوفاً على " بُرِكَ "، وإنما احتاج إلى تقدير : وقيل له : ألق، ليكون جملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها، كأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة.
والصحيح أنه لا يشترط ذلك، ثم ذكر مذهب سيبويه.
﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾، وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها، سميت جانّاً، لأنها تستر عن الناس.
وقرأ الحسن، والزهري، وعمرو بن عبيد " جَأنٌّ " بهمزة مكان الألف، وقد تقدم تقرير هذا عند ﴿وَلاَ الضَّآلِّينَ﴾ [الفاتحة : ٧] على لغة من يهرب من التقاء الساكنين، فيقول شأبَّة ودأبَّة.
" وَلَّي مُدْبِراً " هرب من الخوف، و " وَلَمْ يُعَقِّبْ " : لم يرجع، يقال : عقب فلان : إذا رجع، وكل راجع معقب.
وقال قتادة : ولم يلتفت، فقال الله :﴿يا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾، يريد : إذا أمَّنتهم لا يخافون، وقيل : المراد إذا أرمتهم بإظهار معجز أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك، وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة، لأن الخوف الذي هو شرط الإيمان لا يفارقهم، قال النبي - ﷺ - :" أنا أخاشكم لله " قوله :" تَهْتَزُّ " جملة حالية من (هاء) " رآها "، لأن الرؤية بصريَّة، وقوله :
١١٧
" كَأنَّهَا جَانٌّ " : يجوز أن تكون حالاً ثانية، وأن تكون حالاً من ضمير " تَهْتَزُّ "، فيكون حالاً متداخلة، وقوله :" وَلَمْ يُعَقّبْ " يجوز أن يكون عطفاً على " وَلَّى "، وأن يكون حالاً أخرى، والمعنى : ولم يرجع على عقبه، كقوله : ٣٩٣٣ - فَمَا عَقَّبُوا إذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّب
وَلاَ نَزلُوا يَومَ الكَرِيهَةِ مَنْزِلا
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ١١٦
قوله :﴿إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنَّه استثناء منقطع، لأنَّ المرسلين معصومون من المعاصي، وهذا هو الظاهر الصحيح، والمعنى : لكن من ظلم من سائر الناس، فإنه يخاف فإنه تاب وبدل حسناً بعد سوء فإنِّي غفورٌ رحيمٌ.
والثاني : أنَّه متصلٌ، وللمفسرين فيه عبارات، قال الحسن : إنَّ موسى ظلم بقتل القبطي، ثم تاب فقال :﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ [القصص : ٢٢].
وقال ابن جريح : قال الله لموسى : أخفتك لقتلك النفس، وقال : معنى الآية : لا يخيف الله الأنبياء إلاّ بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب.
وقيل : محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل.
وقال بعض النحويين :" إلا " هاهنا بمعنى ولا، يعني : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون، كقوله تعالى :﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ [البقرة : ١٥٠].
يعني ولا الذين ظلموا.
وعن الفراء أنه متصل، لكن من جملة محذوفة تقديره : وإنما يخاف غيرهم إلاَّ من ظلم.
١١٨