قوله تعالى :﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ الآية " تَفَقَّدَ الطَّيْرَ " : طلبها وبحث عنها وبحث عنها، والتفقد طلب ما فقد، والمعنى طلب ما فقد من الطير، واختلفوا فيما تفقده من أجله، فقيل : لأنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها، وقيل : لأن هندسة الماء كانت لديه، وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى في الزجاج وكان يعرف قربه وبعده في عمق الأرض.
قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف، انظر ما يقول : إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ، حتى يقع في عنقه، فقال له ابن عباس : ويحك إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر، وهذا القول فيه نظر، لأن الجن أعرف بالأرض من الهدهد، فإنهم سكانها، وقيل : لأنه كان يظله من الشمس.
قوله :﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ﴾، هذا استفهام توقيف ولا حاجة إلى ادعاء القلب وأن الأصل : ما للهدهد لا أراه ؟ إذ المعنى قوي دونه، والهدهد معروف، وتصغيره على هديهد، وهو القياس، وزعم بعض الحويين أنه تقلب ياء تصغيره ألفاً، فيقال : هداهد، وأنشد : ٣٩٤٥ - كَهُدَاهِدٍ كَسَرَ الرُّمَاةُ جَنَاحَهُ
يَدْعُوا بِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ هَدِيلاً
كما قالوا : دُوَابَّة وشُوَابَّة، في : دُوَيْبَة وشُوَيْبَة، ورده بعضهم بأن الهداهد الحمام الكثير ترجيع الصوت.
تزعم العرب أن جارحاً في زمن الطوفان اختطف فرخ حمامة
١٣٥
تسمى الهديل، قالوا : فكل حمامة تبكي فإنما تبكي على الهديل.
قوله :" أم كان "، هذه " أم " المنقطعة، وتقدم الكلام فيها، وقال ابن عطية : قوله ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ مقصد الكلام : الهدهد غاب، ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله " مَالِيَ " ناب مناب الألف التي تحتاجها " أم "، قال أبو حيان : فظاهر كلامه أن " أم " متصلة، وأن الاستفهام الذي في قوله :" مالي " ناب مناب ألف الاستفهام، فمعناه : أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل، ولم أشعر بغيبته ؟.
قال شهاب الدين : ولا يظن بأبي محمد ذلك، فإنه لا يجهل أن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام أو التسوية لا مطلق الاستفهام.
قوله :" عذاباً "، أي تعذيباً، فهو اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كـ ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً﴾ [نوح : ١٧]، وقد كتبوا :" أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ " بزيادة ألف بين لام ألف والذال، ولا يجوز أن تُقْرَأ بها، وهذا كما تقدم أنهم كتبوا :﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾ [التوبة : ٤٧] بزيادة ألف بين لام ألف والواو.
قوله :" أو لَيَأْتِينِّي "، قرأ ابن كثير بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وهذا هو الأصل، واتبع مع ذلك رسم مصحفه، والباقون بنون مشددة فقط، والأظهر أنها نون التوكيد الشديدة، توُصِّلَ بكسرها لياء المتكلم، وقيل : بل هي نون التوكيد الخفيفة أدغمت في نون الوقاية، وليس بشيء لمخالفة الفعلين قبله، وعيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة لم يصلها بالياء.
فصل قال المفسرون : معنى الآية : ما للهدهد لا أراه، تقول العرب : مالي أراك كثيباً ؟ فقال : ما لي لا أرى الهدهد، على تقدير أنه مع جنوده وهو لا يراه، ثم أدركه الشك في غيبته فقال : أم كان من الغائبين، يعني أكان من الغائبين ؟ والميم صلة، وقيل : أم
١٣٦
بمعنى بل، ثم أوعد على غيبته، فقال :﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً﴾، فقيل : بنتف ريشه ووضعه لهوام الأرض، وقيل : بحبسه في القفص، وقيل : بأن يفرق بينه وبين إلفه، وقيل : بحبسه مع ضده، ﴿أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ حُجَّة ظاهرة.
قوله :" فَمَكَثَ " قرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان، إلا أن الفتح أشهر، ولذلك جاءت الصفة على ماكث، دون كيث، واعتذر عنه بأن فاعلاً قد جاء لفَعُل بالضم، نحو : حَمُضَ فهو حامض، وخَثُر فهو خاثر، وفَرُهَ فهو فاره.
قوله :" غَيْرَ بعِيدٍ "، يجوز أن يكون صفة للمصدر، أي مكثراً غير بعيد، وللزمان أي : زماناً غير بعيد، وللمكان أي : مكاناً غير بعيد، والظاهر أن الضمير في مكث للهدهد، وقيل : لسليمان - عليه السلام - فقال :﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول : علمت ما لم تعلم، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك.
قوله :" مِنْ سَبَأ "، قرأ البزِّيّ، وأبو عمرو بفتح الهمزة، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة، فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، وعليه قوله : ٣٩٤٦ - مِنْ سَبَأَ الحَاضِرِينَ مَأْربَ إِذْ
يَبْنُونَ مِنْ دُون سَيْلِهِ العَرِمَا
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ١٣٥
وقرأ قُنْبُل بسكو الهمزة، كأنه نوى الوقف وأجرى الوصل مجراه، والباقون بالجر والتنوين، جعلوه اسماً للحيِّ او المكان، وعليه قوله : ٣٩٤٧ - الوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ


الصفحة التالية
Icon