قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الجَوَامِيسِ
١٣٧
وهذا الخلاف جارٍ بعينه في سورة سبأ.
وفي قوله :﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ فيه من البديع التجانس، وهو : تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف كهذه الآية، ومثله :﴿تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر : ٧٥].
وفي الحديث :" الخَيْلُ مَعْقُود بِنَواصِيهَا الخَيْرُ "، وقال آخر : ٣٩٤٨ - لِلَّهِ مَا صَنَعَتْ بِنَا
تِلْكَ المَعَاجِرُ وَالمَحَاجِرْ
وقال الزمخشري : وقوله ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو يصنعه عالم بجوهر هذا الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى، ألا ترى أنه لو وضع مكان :" بنبأ " :" بخبر " لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
يريد بالزيادة : أن النبأ أخص من الخبر، لأأنه لا يقال إلا فيما له شأن من الأخبار، بخلاف الخبر، فإنه يطلق على ما له شأن، وعلى ما لا شأن له، فكلّ نبأ خبر من غير عكس.
وبعضهم يعبر عن نحو :﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ في علم البديع بالترديد، قاله صاحب التحرير، وقال غيره : إن الترديد عبارة عن رد أعجاز البيوت على صدورها، أو ردّ كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، فمثال الأول قوله : ٣٩٤٩ - سَرِيعٌ إِلَى ابْنِ العَمِّ يَلْطمُ وَجْهَهُ
وَلَيْسَ إلَى دَاعِي الخَنَا بِسَرِيعِ
١٣٨
ومثال الثاني قوله : ٣٩٥٠ - وَاللَّيَالِي إِذَا نَأَيْتُمْ طِوَالٌ
واللَّيَالِي إذَا دَنَوْتُمْ قِصَارُ
وقرأ ابن كثير في رواية :" مِنْ سباً " مقصوراً منوناً، وعنه أيضاً :" مِنْ سَبْأَ " بسكون الباء وفتح الهمزة، جعله على فَعْل ومنعه من الصرف، لما تقدم.
وعن الأعمش :" من سَبَإِ " بهمزة مكسورة غير منونة، وفيها إشكال ؛ إذ لا وجه للبناء، والذي يظهر أن تنوينها لا بد وأن يقلب ميماً وصلاً، ضرورة ملاقاته للباء، فسمعها الراوي ؛ فظن أنه كسر من غير تنوين.
وروي عن أبي عمرو :" مِنْ سَبَا " بالألف صريحة، كقولهم : تفرقوا أيدي سبا.
وكذلك قرىء " بِنَبَا " بألف خالصة، وينبغي أن يكونا لقارىء واحد وسبأ في الأًل : اسم رجل من قحطان، واسمه : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسبأ لقلب له، وإنما لقلب به : لأنه أول من سبأ.
قوله :﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ لما قال الهدهد لسليمان :﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾، قال سليمان : وما ذاك ؟ قال :﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن من نسل يعرب بن قحطان، وكان ملكاً عظيم الشأن، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه امرأة من الجن يقال لها : ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها، وفي الحديث :" إن أحد أبوي بلقيس كان جنِّياً " وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس، والضمير في " تملكهم " راجع إلى " سبأ "، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر، وإن أريد المدينة فمعناه : تملك أهلها، قال عليه السلام لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى :" لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة "
١٣٩


الصفحة التالية
Icon