ذالِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون : ١٥]، وهم كانوا يتيقنون الموت، فلا حاجة إلى التأكيد، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول " اللام " على البعث أشد ليفيد التأكيد.
فالجواب : أن التأكيد حصل أولاًَ بقوله :﴿خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون : ١٢ - ١٤].
فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغُ في التأكيد من دخول " اللام " على خبر " إن "، وهي تنصب الاسم، وترفع الخبر خلافاً للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها.
وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ أو الخبر معاً، وتنصبهما معاً، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل ؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما، فلم يظهر للعمل أثر البتة، ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الاسمين، فلا معنى للاشتراك، والفرع لا يكون أقوى من الأصل.
والثاني - أيضاً - باطل، لأنه مخالف لعمل الفِعْل، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خُلوه عما يرفعه.
والثالث - أيضاً - باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع ؛ لن الفعل يعمل في الفاعل أولاً بالرفع ؛ ثم في المفعول بالنصب، فلو جعل الحرف هاهنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع.
ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع، وهي أنها تنصب الاسم، وترفع الخبر، وهذا مما ينبّه على أن هذه الحروف لَيْسَتْ أصلية في العمل ؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل.
وتخفّف " إن " فتعمل وتهمل، ويجوز فيها أن تباشر الأفعال، لكن النواسخ غالباً تختص بدخول " لام " الابتداء في خبرها، أو معمولة المقدم عليها، أو اسمها المؤخّر، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفاً أو مجروراً، وتختص - أيضاً - بالعَطْفِ على محل اسمها، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة.
و " الذين " اسمها و " كفروا " صلة وعائد، و " لا يؤمنون " خبرها، وما بينهما اعتراض، و " سواء " مبتدأ، و " أنذرتهم " وما بعده في قوة التًَّأويل بمفرد هو الخبر، والتقدير : سواء عليهم الإنذار وعدمه، ولم يحتج هنا إلى رَابِطٍ ؛ لأنّ الجملة نفس المبتدأ، ويجوز أن يكون " سواء " خبراً مقدماً، و " أنذرتهم " بالتأويل المذكور مبتدأ مؤخر تقديره : الإنذار وعدمه سواء.
٣٠٨
قال ابنُ الخَطِيبِ : اتفقوا على أنّ الفِعل لا يخبر عنه ؛ لأن قوله :" خرج ضرب " ليس بكلام منتظم، وقد قدحوا فيه بوجوه : أحدها : أنَّ قوله :" أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ " فعل، وقد أخبر عنه بقوله : سَوَاءٌ عَلِيْهِمْ "، ونظيره " ثُمَ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوا الآيَات لَّيَسْجُنُنَّهُ " فاعل " بَدَا " هو " يسجننه ".
وثانيها : أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل.
فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكن فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل.
فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم.
قلنا : فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل اسماً كان هذا الخبر كذباً ؛ والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً ؛ لأن الاسم لا يكون فعلاً، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه.
وثالثها : أنا إذا قلنا : الفعل لا يخبر عنه، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أَنَّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ، وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه.
ثم قال هؤلاء : لما ثبت أه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجةٌ إلى ترك الظاهر.
أما جمهور النحويين فقالوا : لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير : سواء عليهم إنذارك وعدمه.
وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم " إن " وخبرها، وهو " لا يؤمنون " كما تقدم، ويجوز أن تكون هي نفسها خبراً لـ " إن "، وجملة " لا يؤمنون " في محل نصب على الحال، أو مستأنفة، أو تكون دعاءً عليهم بعد الإيمان - وهو بعيد - أو تكون خبراً بعد خبر على رأي من يجوز ذلك.
ويجوز أن يكون " سواء " وحده خبر " إن "، و " أأنذرتهم " وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل له، والتقدير : استوى عندهم الإنذار وعدمه.
و " لا يؤمنون " على ما تقدّم من الأوجه٠ أعني : الحال والاستئناف والدعاء والخبرية.
والهمزة في " أأنذرتهم " الأصل فيها الاستفهام، وهو - هنا - غير مراد، إذ المراد التسوية، و " أنذرتهم " فعل وفاعل ومفعول.
و " أم " - هنا - عاطفة وتسمى متصلةً، ولكونها متصلة شرطان : أحدهما : أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظاً أو تقديراً.
٣٠٩