وقوله :﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ﴾ فقد عبّر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : إحداها هذه، وثانيها ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾، وثالثها ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ [النمل : ١٢] قوله " مِنَ الرَّهْبِ " متعلق بأحد أربعة أشياء، إمّا بـ " وَلَّى "، وإمَّا بـ " مُدْبراً "، وإمَّا بـ " اضمم "، ويظهر هذا الثالث إذا فسَّرنا الرَّهب بالكمِّ، وإمّا بمحذوف أي : تسكن من الرهب وقرأ حفص بفتح الراء وإسكان الهاء.
والأخوان وابن عامر وأبو بكر بالضم والإسكان، والباقون بفتحتين، والحسن وعيسى والجحدري وقتادة بضمتين وكلها لغات بمعنى الخوف وقيل هو بفتحتين الكُمُّ بلغة حمير وحنيفة، قال الزمخشري " هُومن بدِع التفاسير " قال : وليست شعري كيف صحته في اللغة، وهل سُمِعَ من الثقات الأثبات التي تُرْتَضى عربيتهم، أم ليت شعري كيف موقعه في الآية، وكيف تطبيقه المفضل كسائر كلمات التنزيل، على أن موسى صلوات الله عليه ليلة المناجاة ما كان عليه إلاَّ زُرْمانِقَة من صُوفٍ لا كُمّ لها.
الزُّرمانقة : المدرعةُ.
قال أبو حيان : هذا مروي عن الأصمعي، وهو ثقة، سمعتهم يقولون أعطني ما في رهبك أي كُمِّكَ، وأما قوله : كيف موقعه ؟ فقالوا : معناه : أخرج يدكّ من كُمِّكَ.
قال سهاب الدين : كيف يستقيم هذا التفسير، يُفَسِّرُون " اضْمُمْ " بمعنى أَخْرِج.
وقال الزمخشري : فإن قُلْتَ : قد جعل الجناح وهو اليَدُ في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله :﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ وقوله ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ [طه : ٢٢] فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم : هو اليد اليمنى، وبالجناح المضموم إليه هو اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح.
٢٥٠
فصل قال الزمشخري : في ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ معنيان : أحدهما : أنّ موسى عليه السلام لمَّا قلب الله له العصا حيَّةً فزع واضطر واتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له : إنَّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتنا وقد انقلبت حية فأدخل يدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما منه غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد، لأن يد الإنسان بمنزلة جناح الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد اليسرى، فقد ضم جناحه إليه.
(الثاني : أن يراد بضم جناح ة تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حيَّة حتى لا يضطرب) ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نَشَرَ جناحية وأرخاهُما، وإلا فجناحاه منضمان إليه مستمران ومعنى قوله " مِنَ الرَّهْب " أي : من أجل الرهب إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك (ومعنى ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ ) وقوله " اسْلُكْ يَدَكَ " على أحد التفسيرين واحد، وإنما خُولِفَ بين العبارتين وكرَّر المعنى لاختلاف الغرضين، وذلك أنَّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب.
قال البغوي : المعنى إذا هَالَك أمر يدك وما ترى من شعاعها، فأدخِلْها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى، والجناح اليد كلها وقيل : العضد.
وقال عطاء عن ابن عباس : مره الله (أن يَضُمَّ) يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية.
وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
وقال مجاهد : كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقيل : المراد من ضم الجناح السكون، أي : سكّن روعَك واحفظ عليك جأشك، لأن من شأن الخائف أن يضطرب عليه قلبه وترتعد يداه، ومثله قوله :﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾
٢٥١
[الإسراء : ٢٤] يريد : المرفق، وقوله :﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ [الشعراء : ٢١٥] أي : أرفق بهم وأَلِنْ جانبك لهم، وقال الفراء : أراد بالجناح العصا، معناه : واضمُمْ إليك عَصَاك.
قوله :" فَذانك " تقدم قراءة التخفيف والتثقيل في النساء، وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل بياء بعد نون مكسورة، وهي لغة هذيل، وقيل تميم، وروى شبل عن كثير بياء بعد نون مفتوحة، وهذا على لغة من يفتح نون التثنية، كقوله : ٣٩٩٤ - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً
فَمَا هِيَ إِلاَّ لَمْحَةٌ وتغِيبُ
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٢٤٧
والياء بدل من إحدى النونين (كَتَظَنَّيْتُ).
وقرأ عبد الله بتشديد النون وياء بعدها، ونسبت لهذيل.
قال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها، وكأن الكسرة هنا إشباع كقراءة هشام ﴿أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم : ٣٧].
" ذَانِكَ " إشارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، وإنما ذكَّر ما أشير به إليهما لتذكير خبرهما وهو " بُرْهَانَان "، كما أنه قد يؤنث لتأنيث خبره كقراءة ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الأنعام : ٢٣] فيمن أَنَّثَ ونثب " فِتْنَتُهُمْ " وكذا قوله :
٢٥٢