قوله :﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ﴾ أي : صار أولئك الذين تمنوا ما رُزق من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني، والعرب تعبِّر عن الصيرورة بأصبح وأمسى وأضحى، تقول : أصبح فلانٌ عالماً، وأضحى معدماً، وأمسى حزيناً، والمعنى صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى وداعياً إلى الرضا بقضاء الله وقسمته.
قوله :﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ....
وَيْكَأَنَّ﴾
فيه مذاهب منها : أن وَيْ كلمة رأسها وهي اسم فعلٍ معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل، و " أنْ " وما في حيّزها مجرورة بها، أي : أعجب لأنَّه لا يفلح الكافرون، وسمع كما أنَّه لا يعلم غفر الله له، وقياس هذا القول أن يوقف على " وَيْ " وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي، إلا أنه ينقل عنه أنه يعتقد في الكلمة أن أصلها " وَيْلَكَ " كما سيأتي، وهذا ينافي وقفه، وأنشد سيبويه : ٤٠٢٠ - وَيْ كَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْـ
ـبَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرٍّ
الثاني : قال بعضهم " كَأَنَّ " هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبر والتقين، وأنشد :
٢٩٨
٤٠٢١ - كَأَنَّنِي حِينَ أُمْسِي لاَ يُكَلِّمُنِي
مُتَيَّمٌ يَشْتَهِي مَا لَيْسَ مَوْجُودا
وهذا أيضاً يناسبه الوقف على " وَيْ ".
الثالث : أن " وَيْكَ " كلمة برأسها والكاف حرف خطاب، وأنَّ معمولة لمحذوف، أي : اعلم أنَّه لا يفلح، قال الأخفش، وعليه قوله : ٤٠٢٢ - ألا ويك المسرة لا تدوم
ولا يبقى على البؤس النعيم
وقوله عنترة : ٤٠٢٣ - وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِيَ وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا
قِيلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
وحقه أن تقف على " وَيْكَ " وقد فعله أبو عمرو بن العلاء.
الرابع : أن أصلها " وَيْلَكَ " فَحُذِفَ، وإليه ذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم،
٢٩٨
وحقهم أن يقفوا على الكاف كما فعل أبو عمرو، ومن قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين، فإنه يحتمل أن يكون الأصل فيهما " وَيْلَكَ " فحذف ولم يرسم في القرآن إلا " وَيْكَأَنَّ " " وَيْكَأَنَّهُ " متصلة في الموضعين.
فعامَّة القرَّاء اتبعوا الرسم، والكسائي وقف على " وَيْ " وأبو عمرو على " وَيْكَ " وهذا كله في وقف الاختيار دون الاختبار كنظائر تقدمت.
الخامس : أنَّ وَيْكَأَنَّ كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها " أَلَمْ تَرَ ".
وربَّما نقل ذلك عن ابن عباس، ونقل الكسائي والفراء أنها بمعنى : أما ترى إلى صنع الله، قال الفراء : هي كلمة تقرير، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ؟ قال : وَيْ كأنَّه وراء البيت، يعني : أما ترينه وراء البيت، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رحمة لك في لغة حمير.
قوله :﴿لَوْلا اا أَن مَّنَّ اللَّهُ﴾ قرأ الأعمش " لَوْلاَ مَنَّ " بحذف " أنْ " وهي مرادة، لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ، وعنه " مَنُّ " برفع لانون وجر الجلالة، وهي واضحة.
قوله : لَخِسَفَ " قرأ حفص :" لَخَسَفَ " مبنياً للفاعل أي الله تعالى، والباقون ببنائه للمفعول، و " بِنَا " هو القائم مقام الفاعل، وعبد الله وطلحة لا نُخُسِفَ بِنَا أي : المكان، وقيل :" بِنَا " هو القائم مقام الفاعل كقولك : انقطع بنا، وهي عبارة رديئة وقيل : الفاعل : ضمير المصدر أي : لا نخفسف الانخساف وهي عنه أيضاً، وعن
٢٩٩
عبد الله " لَتُخُسِّفَ " بتاء من فوق وتشديد السين مبنياً للمفعول، وبنا قائم مقامه.
قوله :" وَيْكَأَنَّ " كلمة مستعملة عند التنبيه للخطاب وإظهار التندم، فلما قالوا :﴿يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾ [القصص : ٧٩] ثم شاهدوا لاخسف تنبهوا لخطئهم، ثم قالوا : كأنه ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيِّق عليه، بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة، قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الحرف، فقال :" وَيْ " مفصولة من " كَأَنَّ " وأن القو تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم.
قوله تعالى :" تِلْكَ الدَّارُ " مبتدأ وصفته، و " نَجْعَلُهَا " هو الخبر، ويجوز أن يكون " الدَّارُ " هو الخبر " نجعَلُهَا " خبراً آخر، وحال والأولى أحسن، وهذا تعظيم لها وتفخيم لشأنها، يعني : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً﴾ ليفيد أن كلاً منها مستقل في بابه لا مجموعهما، ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٢٩٨


الصفحة التالية
Icon