قال قطرب : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كقول القائل :(لا) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الرحمن : ٣٣]، أي على تقدير أن يكونوا فيها، وأبعد من ذلك من قدره موصولين محذوفين ؛ أي) وما أنتم مبعجزين من في الأرض من الجن والإنس، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها (و) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفاً أي وما أنتم بمعجزين أين فائتين ما يريد الله بكم.
فصل اعلم أن إعجاز المعذَّب عن التعذيب إما بالهرب منه، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال :﴿وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء﴾، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء، أو هربتم إلى تُخُوم الأرض (لم) تخرجوا من قبضة قدرة الله - عزّ وجلّ -، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه، وكلاهما محال فلهذا قال :﴿وما لكم من دون الله من ولي﴾ يشفع ﴿ولا نصير﴾ يدفع.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله :﴿وما أنتم بمعجزين﴾ ولم يقل :" ولا تعجزن " بصيغة الفعل ؟ فالجواب : لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحة فإن من قال : إن فلاناً لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه انه ليس بخائط، وقدم " الأرض " على " السماء "، و " الولي " على " النصير " ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملكن وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك قدم الأرض على السماء، والولي على النَّصِير.
٣٣٥
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٣٣
قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ﴾ أي بالقرآن وبالبعث ﴿أُوْلَـائِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ يوم القيامة فإن قيل : هلا اكتفي بقوله :" أَولَئكَ " مرة واحدة ؟ فالجواب : أن لك لِفائدة وهو أنه لو قال أولئك يئسوا وهم في عذاب أليم ذهب (ذاهب) إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم، فلا يوجد المجموع إلا فيهم.
(و) أضاف الرحمة إلى نفسه في قوله تعالى :﴿يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي﴾ وأضاف اليأس إليهم بقوله :" يَئٍسُوا " إعلاماً لعباده بعُمُومِ رحمته.
قوله تعالى :﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ العامة على نصبه والحسن وسالم الأفْطَس برفعه وتقدم تحقيق هذا.
هذه الآيات في تذكير أهل إبراهيم وتحذيرهم وهي معترضة في قصة " إبراهيم " صلوات الله عليه، ثم عاد إلى قصة " إبراهيم " فقال تعالى :﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾.
لما أقام إبراهيم صلوات الله عليه بالبرهان على الأصول الثلاثة لم يجيبوه إلا بقولهم ﴿اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ فإن قيل : كيف سمى قولهم : اقتلوه جواباً مع أنه ليس بجواب ؟ فالجواب عند من وجهين : أحدهما : أنه خرج مَخْرَجَ كلام متكبر، كما يقول المَلِكُ لرسول خَصْمِهِ : جوابكُمُ السيفُ، مع أن السيفَ ليس بجوابِهِ وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف.
وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان (ضلالتهم) وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في
٣٣٦


الصفحة التالية
Icon