معرض الجواب فبيّن أنهم لم يكن لهم جوابٌ أصلا، وذلك أن من لا يجيبُ غيره ويسكت لا يعلم (أنه لا يقدر أم لا) لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجوابٍ فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه.
فصل " أو " تذكر لأمرين الثاني منهما لا ينفك عن الأول، كما يقال :" زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ "، ويقال : هذا إنسان أو حيوان، يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان، ولايصح أن يقال :" هذا حيوان أو إنسان " إذ يفهم منه أن يقول : هذا حيوان، فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان، وهذا فاسد، وإذا كان كذلك فالتحريق مشتمل على القتل، فقوله :" اقتلوه أو حرقوه " كقولك : هذا إنسان أو حيوان.
فالجواب عن هذا من وَجْهَيْنِ.
أحَدهمَا : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع كقولك : أعطه ديناراً أو دينَارَيْنِ.
قال تعالى :﴿قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل : ٢ - ٤] فكذا هاهنا قال : اقتلوه أو زيدواعلى القتل لأن التحريق قتلٌ وزيادة.
الثاني : سلمنا ما ذكرتم، والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض إلى القتل، وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقي في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح أن يقال : احترق فلانٌ، وأحرق وما مات.
فكذلك هاهنا قال : اقتلوه ولا تعجلوا قتله وعَذَّبُوه بالنار، فإن ترك مقالته فخلو سبيله وإن أصرَّ فاتركوه في النار.
قوله تعالى :﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾، قيل : بردت النار وقيل : خلق في إبراهيم صلوات الله (وسلامه) عليه كيفية اسْتَبْرَدَتِ النارَ.
وقيل : ترك إبراهيم (على) ما كان عليه (والنار على ما كانت عليه) وَمنع أذى النار عنه، والْكُلّ ممكنٌ والله قادر عليه.
قوله تعالى :﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك " آية للعالمين " في إنجاء نوح صلوات الله (وسلامه) عليه وأصحاب السفينة جعلناها آية وقال هاهنا آيات بالجمع، فما الحكمة ؟
٣٣٧
فالجواب : إن إنجاء السفينة شيء يتسع له العقول، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان السفينة عن المهلكات كالرياح، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا :" آيةٌ لِلْعَالِمِينَ " وقال هنا " لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " فخص الآيات بالمؤمنين ؟ فالجواب : أن السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر (لمن بعده) إلا بطريق الإيمان والتصديق، وفيه لطيفة (وهو) أن الله تعالى لما بَرَّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة، فقال :﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، فإن قيل : لم قال هناك :" جَعَلْنَاها "، (وقال هنا جَعَلْنَاهُ) ؟ فالجواب : لأن السفينة ما صارت آية في نفسها، ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح (سفهاً) فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية، وأما تبريد النار فهو في نفسه (آية) إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آيةً.
قوله :" إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ " في " ما " هذه ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف وهو المفعول الأول، و " أَوْثَانًا " مفعول ثان، والخبر " مَوَدَّةُ " في قراءة من رفع كما سيأتي، والتقدير : إنْ الذي اتَّخَذْتُمُوهُ أوْثَاناً مودةٌ أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب " مَوَدَّةً " أي الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا تنفكم، أو يكون " عليكم " لدلالة قوله :﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾.
والثاني : أن تجعل " ما " كافة، و " أوثاناً " مفعول به، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد
٣٣٨