والباقون بالخطاب فيها.
وقرىء يَرْجعثون مبيناً للفاعل.
فصل لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فخوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة أي كل أحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فإن كل نفس ذائقة الموت فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم فيجزيكم بأعمالكم، وفيه وجه دقيق آخر وهو أن قوله :﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ أي إذا كانت (معلقة) بغيرها فهو للموت ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى :﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ﴾ [الدخان : ٥٦] وإذا كان كذلك فمن يريد أن لا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره، وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت لقوله :﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ و ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص : ٨٨] (يريح من الموت) فقال تعالى :" فإياي فاعبدون " أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس، فإنها ذائقة الموت ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوعٌ إلي وليس بموت لقوله :﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران : ١٦٩]، وقال عليه (الصلاة و) السلام :" المؤمِنونَ لا يَمُوتونَ بل يُنْقَلُون من دار إلى دار ".
قوله (تعالى) :﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ الوجهان المشهوران الابتداء، والاشتغال، وقوله :" لَنُبَوِّئَنَّهُمْ "، قرأ الأخوانِ بتاء مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النون، وياء مفتوحة بعد الواو من الثَّوَاءِ وهو الإقامة، يقال : ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ، مفتوحة بعد الواو من المَبَاءَةِ وهي الإنزال أي لنبوئنهم من الجنة غرَفاً.
٣٧٠
قوله :" غُرَافاً " على القراءة الأولى إما مفعول به على تضمين " أَثْوَى " أَنْزَلَ فيتعدى لاثنين ؛ لأنَّ " " ثوى " قاصرٌ، وأكسبتْهُ الهمزةُ التعدي لواحدٍ، وإما (على) تشبيه الظرف المختص بالمبهم كقوله :﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف : ١٦] وإما على إسقاط الخافض اتساعاً أي في غُرَفٍ.
وأما في القراءة الثانية فمفعول ثانٍ ؛ لأن " بوأ " يتعدى لاثنين قال تعالى :﴿تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ [آل عمران : ١٢١]، ويتعدى باللام، قال تعالى :﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج : ٢٦].
وقرىء " لنثوينّهم " بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة، و " تجري " صفة " لِغُرَفاً " ﴿خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ وهذا في مقابلة قوله للكفار :﴿ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت : ٥٥] قوله :" الَّذِينَ صَبَرُوا " يجوز فيه الجر والنصب والرفع كنظائر له تقدمت، والمعنى : الذين صبروا على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ يعتمدون.
قوله :﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ جوز أبو البقاء في " كأين " وجهين : أحدهما : أنها مبتدأ و " لا تحمل " صفتها و " الله يرزقها " خبره و " من دابة " تبيين.
والثاني : أن تكون في موع نصب بإضمار فعل يفسره " يرزقها " ويقدر بعد " كأين " يعني لأن لها صدر الكلام، وفي الثاني نظر ؛ لأن من شرط المفسرِ العملَ، وهذا المفسر لا يعمل لأنهُ لو عمل لحل محل المفعول لكن لا يحل محله، لأن الخبر (متى
٣٧١
كان) فعلاً رافعاً لضمير مفرد امتنع تقديمه على المبتدأ.
وإذا أردت معرفة هذه القاعدة فعليك بسورة " هود " عند قوله :﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾ [هود : ٨].
فصل لما ذكر الله ﴿الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾ ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئاً لغدٍ، ويأتيها رزقها كل يوم.
واعلم أن (في) كأين (أربع لغات غير هذه كائن على وزن راعٍ، وكَأَى على وزن رَعَى " وكِيءَ " على وزن " رِيعَ " و " كَا " على وزن " رع " ولم يُقْرأ إلا كائن و " كا " قراءة ابن كثير.
فصل " كأين " كلمة) مركبة من " كاف التشبيه " و " أن " التي تستعمل استعمال " مَن " و " ما " ركبتا، وجعل المركّب بمعنى " كم " ثم لم يكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب لأن " كأيّ " مستعمل غير مركب كما يقول القائل :" رأيت رجلاً لا كَأَيِّ رَجُلٍ يكُونُ " (فقد حذف المضاف إليه، ويقال : رأيت رجلاً لا كأي رجل) وحينئذ لا يكون " كي " مركباً.
فإذا كان " كأي " ههنا مركباً كتبت بالنون للتمييز، (كما تكتب مَعْدِ يكَرِبَ وبَعْلَبَكَّ) موصولاً للفرق وكما تكتب ثَمَّةَ بالهاء تمييزاً بينها وبين (ثَمَّتَ).

فصل روي أن النبي - ﷺ - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وآذاهم المشركون هاجروا إلى المدينة.


فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال ؟ فمن يطعمنا بها
٣٧٢


الصفحة التالية
Icon