قوله :" وَعْدَ اللَّهِ " مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك وعداً بظهور الروم على فارسَ ﴿لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ وهذا مقدر لمعنى هذا المصدر ويجوز أن يكون قوله :﴿لا يخلف الله وعده﴾ حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع (و) كأنه قيل : وعد اله وعداً غير مخلف ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
قوله :﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتَّجِرُونَ ومتى يغرسون قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه، ولا يخطىء وهو لا يحسن (يصلي) والمعنى أن علمهم منحصر في الدنيا بل لا يعلمون الدنيا كما هي وإنما يعلمون ظاهرها وهو ملاذها، ولا يعلمون باطنها وهو مضارها ومتاعبها ولا يعلمون فناها ﴿وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ ساهون جاهلون بها لا يتفكرون فيها، وذكرهم الثانية ليفيد أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكر حاصلة.
قوله :" أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا " فقوله في أنفسهم ظرف للتفكّر، وليس مفعولاً للتفكر (ومتعلقه خلق) السماوات والأرض، والمعنى أن أسباب التفكر حاصلة وهي أنفسهم لو تفكروا فيها لعلموا وَحْدَانِيَّة الله، وصدقوا بالحشر أما الوحدانية فلأن الله تعالى خلقهم في أحسن تقويم، ومن يفكر في تشريح بدن الإنسان وحواسه رأى في ذلك حِكَماً كل واحدة منها كافية في معرفة كون الله فاعلاً مختاراً قادراً كاملاً عالماً، ومن يكون كذلك يكون واحداً وإلا لكان عاجزاً عن إرادة شريكه ضد ما أراده وأما دلاله
٣٨٧
الإنسان على الحشر فلأنه إذا تفكر في نفسه يرى قُوَى مصائره إلى الزوال، وأجزاء ماثلة إلى الانحلالِ وله فناء ضروري فلو لم يكن حياة أخرى لكان خلقه على هذا الوجه عبثاً وإليه الإشارة بقوله ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ [المؤمنون : ١١٥]، هذا ظاهر، لأن من يفعل شيئاً للعبث، فلو بالغ في أحكامه لضحك منه فأذن خلقه لذلك للبقاء ولا بقاء دون اللقاء بالآخرة فإذن لا بد من البعث.
ثم إنه تعالى ذكر بعد دليل الأنفس دليل الأقطار فقال :﴿مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ فقوله :" إلا بالحق " إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية وقد بينا ذلك في قوله :﴿إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [العنكبوت : ٤٤].
قوله :" ما خلق " " ما " نافية، وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها.
والثاني : أنها معلقة للتفكّر فتكون في محل نصب على إسقاط الخافض ويضعف أن تكون استفهامية بمعنى النفي، وفيها الوجهان المذكوران.
والباء في " بالحق " إما سببية، وإما حالية لإقامة الحق، وقوله :" وَأَجَلٌ مُسَمّىً تذكير بالأصل الآخر الذي أنكروه أي لوقت معلوم، إذا انتهت إليه فنيت وهو يوم القيامة، ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُون﴾ لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء.
قوله :" بلقاء " متعلق " بالكافرين " واللام لا تمنع من ذلك لكونها في خبر " إنَّ ".
فإن قيل : ما الحكمة في تقديمه ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق وقدم دليل الآفاق على دلائل الأنفس في قوله :﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت : ٥٣] ؟ فالجواب : أن المفيد إذا أفاد فائدة يتذكرها على وجه جيد يختاره فإن مهمة السامع المستفيد فذاك، وإلا يذكرها على وجه أبْيَنَ منه وينزل درجة فدرجة وأما المستفيد فإنه يفهم أولاً الأبين ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخراً فالمذكور من المفيد أخِراً مفهوم عند المستمع أولا، إذا علم هذا
٣٨٨