فنقول ههنا (الفعل) كان منسوباً إلى السامع حيث قال :﴿أو لم يتفكروا في أنفسهم﴾ فقال :" في أنفسهم " يعني فيما فهموه أولاً ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانياً، وأما في قوله " سَنُرِيهِمْ " الأمر منسوباً إلى المفيد المسمع فذكر أولاً الآفاق، فإن لم يفهموه فالأنفس، لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وأما دلائل الآفاق فيمكن الذهول عنها، وهذا الترتيب مراعىً في قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران : ١٩١] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق.
فصل وجه دلالة الخلق الحَقِّ على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فلأن (تخريب) السموات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع لأن الله قادر على إبقاء الحوادث أبداً كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبداً، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يَجِبْ له القِدَمُ فجاز عيله العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر ممكن وجب على العاقل التصديق والإذعان ؛ لأن العالم لما كان خلقه بالحق ينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست لَعباً ولهواً كما تبين بقوله :﴿وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ [العنكبوت : ٦٤] (وخلق السموات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق) فخلق السماوات والأرض بالحق يدل على أنه لا بد بعد هذه الحياة الدنيا من الحياة.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا :﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ﴾ وقال من قبل :﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ؟.
فالجواب :(فائدته) أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههُنَا قَدْ ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل فبعد الدليل لا بد (أن يؤمن) من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل وإنَّ كَثِيراً، وقال قبله :﴿ولكن أكثر الناس﴾ لأنه بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه، والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم،
٣٨٩
وحكاية أشكالهم فقال :﴿أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وقال في الدليلين المتقدمين " أَوَلَمْ يَرَوا " " أَوَلَم يَتَفَكَّروا " إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض، وقال ههُنا " أوَ لَمْ يَسِيرُوا فينظروا " ذكرهم بحال أمثالهم، ومآل أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك، لأن من تقدم من " عَادٍ وَثُمودَ " كانوا أشدّ منهم قوة، ولم ينفعهم قُوَاهم وكانوا أكثر مالاً وعمارةٌ، ولم يمنعهم من الهلاك أَموالُهُمُ وحُصُونُهُمْ.
قوله :" وَأَثَارُوا الأَرْضَ " حَرَثُوهَا وقلبوها للزراعة (ومنه " البَقَرَة تُثِيرُ الأَرْضَ " وقيل : منه سمي ثوراً)، وأنتم لا حراثة لكم، " وعَمَرُوها أَكْثَرَ ممّا عَمَرُوهَا " أهل مكة، قيل : قال ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث، وقوله :" أكثر مما " نعت مصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم.
وقرىء :" وآثَارُوا " بألف بعد الهمزة وهي إشباع لفتح الهمزة.
قوله :﴿وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ فلم يؤمنوا فأهلكهم الله، ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ بنقص حقوقهم ﴿وَلَـاكِن كَانُوا ااْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بِبَخْسِ حُقُوقِهِمْ.
قوله :" عَاقِبَةُ الذَّيِنَ " قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ بالرفع، والباقون بالنصب، فالرفع على أنها اسم كان، وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي، وفي الخبر حينئذ وجهان : أحدهما :" السوءى " أي الفعلة السوءى والخَصْلَةُ السوءى.
والثاني :" أَنْ كَذَّبُوا " أي كان آخر أمرهم التكذيب فعلى الأول يكون في " أَنْ كَذَّبُوا " وجهان : أحدهما : أنه على إسقاط الخافض إما لام العلة أي لأن كذبوا، وإما باء السببية أي
٣٩٠


الصفحة التالية
Icon