والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألون فإنهما يدومان بدَوَام الإنسان فجعلها آيات عامة، وأما قوله :" لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر، ومنها ما يكفي فيه مُجَرَّدُ الفكرة، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى مثل حسيّة كالأشكال الهندسية، لأن خلق الأرواح لا تقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأما المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد، وقد يحتاج إلى مرشد بغير فكرة فقال :" لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ " ويجعلون بالهم من كلام المرشد.
قوله :﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ لما ذكر العرضيات اللازمة للأنفس المفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق.
قوله :" يُريكُمُ البَرْق " فيه أوجه أظهرها : الموافق لأخواته أن يكون جملة اسمية من مبتدأ وخبر إلا أنه حذف الحرف المصدري، ولما حذف بطل عمله والأصل : ومن آياته أن يُرِيَكُمْ، كقوله : ٤٠٣٨ - أَلاَّ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى
................................
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٣٩٦
الثاني : أن " من آياته " متعلق " بيريكم " أو بمحذوف على أنه حال من البَرْقِ.
والتقدير " يريكم البرق من آياته " فيكون قد عطف جملة فعليةً على جملة اسمية.
والثالث : أن " يريكم " صفة لموصوف محذوف أي ومن آياته (آية) يريكم البرق بها أو فيها البرق فحذف الموصوف والعائد عليها ومثله : ٤٠٣٩ - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا
أموت............................
٣٩٨
أي منهما تارة أموت منها.
الرابع : أن التقدير : ومن آياته سحابٌ أو شيءٌ يريكم ؛ فيريكم صفة لذلك المقدر، وفاعل " يريكم " ضمير يعود عليه بخلاف الوجه قبله، فإن الفاعل ضمير الباري تعالى.
فصل المعنى يريكم البرقَ خوفاً للمسافرين من الصواعق، وطمعاً للمقيمين في المطر وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون﴾.
فصل قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة (حيث ذكر أولاً اختلاف الألسنة والألوان ثم المنام والأبتغاء، وقدم في الآفاق العارضة المفارقة) على اللوازم حيث قال :﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ﴾ وذلك لأن الإنسان متغير الحال، فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو عجيب لكونه أدخلَ في كونهِ " آيةً " فإن الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم فله صوت يعرف به لا يتغير ول لون يتميز به عن غيره، وهو متغير بذلك في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء (والأرض) ثابتان لا يتغيران ثم نرى في بعض الأحوال أمطاراً هاطلةً، وبُرُوقاً هائِلةً والسماء كما كانت والأرض كما كانت وذلك آية تدل على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحلِّ ويُزِيل أمراً مع ثبات المحلِّ.
فصل كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافعَ كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة وهي أن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كِنّ
٣٩٩