وفي المثل :" الانفِضَاضُ يُقَطِّرُ الجَلَب " تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جَلْب الإِبل، وسمي القَطْرُ قطراً لسقوطه.
٥١٦
قوله :" ثُمَّ سُئِلُوا " قرأ مجاهد " سُويِلُوا " بواو ساكنة ثم ياء مكسورة " كقُوتِلُوا ".
حتى أبو زيد : هما يَتَسَاوَلاَن بالواو، والحسن : سُولُوا بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين : أحدهما : أن يكون أصلها : سيلوا كالعامة، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضَرب - بالكسر - ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واواً نحو : بُوسٍ في بُؤْسٍ.
والثاني : أن يكون من لغة الواو، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سِيلُوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو : قِيلوا.
قوله :" لأتَوْهَا " قرأ نافعٌ وابنُ كثير بالقصرب بمعنى لَجَاؤُوهَا وغَشوهَا، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره : لآتوها السائلين.
والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من دميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص.
قوله :" إِلاَّ يَسيراً " أي إلا تَلَبُّثاً أو إلا زماناً يسيراً.
وكذلك قوله :﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأحزاب : ١٦ - ١٨] أي إلا تَمَتُّعاً أو إلا زمانا قليلاً.
فصل دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك، ﴿مّوَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ﴾ أي ام تلبثوا بالمدينة أو البيوت " إلاَّ يَسِيراً " وأن المؤمنين يُخْرِجُونَهُمْ قاله الحسن، وقيل : ما تلبثوا أي ما احْتَبَسُوا عن الفتنة -
٥١٧
وهي الشرك - إلا يسيراً ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبةً به أنفُسُهم وهذا قول أكثر المفسِّرين.
قوله :﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل غزوة الخندق ﴿لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ﴾ عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان : هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يَقْتَتِلُوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة : هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أَشْهَدَنَا اللَّهُ قتالاً لَنُقَاتِلَنَّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقالت والكلبي :" هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - ﷺ - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - ﷺ - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا : وإذا فعلنا ذلك (فما لنا يا رسول الله ؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا : قد فعلنا فذلك) عهدهم "، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد.
وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله :﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً﴾ أي مَسْؤُولاً عنه.
قوله :" لاَ يُوَلُّونَ " جواب لقوله :" عَاهَدُوا " لأنه في معنى :" أقسموا " وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل : لا يُولِّي، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار.
وقال أبو البقاء : ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم.
قال شهاب الدين : ولا اظن هذا إلا غلظاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد، والأول لا يجوز لأن
٥١٨