قوله :" أَشِحَّةً " العامة على نصبه وفيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب على الشَّتْمِ.
والثاني : على الحال وفي العامل فيه أوجه : أحدها :" وَلاَ يَأْتُونَ " قاله الزجاج.
الثاني :" هَلُمَّ إِلَيْنَا ".
قاله الطبري.
الثالث :" يعوقون " مضمراً، قاله الفراء.
الرابع :" المُعَوِّقِينَ ".
الخامس :" القَائِلِينَ " ورد هذان الوجهان الأخيران بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي، وفي الرد نظر لأن الفصل بين أبعاض الصلة من متعلقاتها، وإنما يظهر الرد على الوجه الرابع لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته فتأمله فإنه حسن وأما " وَلاَ يَأْتُونَ " فمُعْتَرِضٌ والمُعْتَرِضُ لا يمنع من ذلك.
وقرأ ابن أبي عبلة أَشِحَّةٌ بالرفع على خبر ابتداء مضمر أي هم أشحة وأشحة جمع " شَحِيحٍ " وهو جمع لا ينقاس ؛ إذ قياس " فَعِيل " الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن يجمع على أفعلاء نحو خَلِيلٍ وأَخِلاَّء وَظنِينٍ وأَظِنَّاء، وضَنين وأَضِنَّاء، وقد سمع أشِحَّاء وهو القياس.
والشُّحُّ البخل، وقد تقدم في آل عمران.
فصل المعنى أشحة عليكم بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، وقال قتادة بخلاء عند الغنيمة وصفهم الله بالبخل والجبن فقال :﴿فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ في الرؤوس من الخوف والجبن ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ أي
٥٢٢
كَدَوَرَانِ عين الذين يغشى عليه من الموت وذلك أن من قَرُبَ من الموت وغَشِيَتْهُ أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرِفُ، واعلم أن البخل شبيه الجبن فلما ذكر البخيل بين سببه وهو الجبن لأن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعاً فيما هو أضعاف ذلك.
قوله :" يَنْظُرُونَ " في محل (نصب) حال من مفعول " رَأَيْتَهُمْ " لأن الرؤية بصرية.
قوله :" تدور " إما حال تانية وإما حال من " يَنْظُرُونَ " " كالَّذِي يُغْشَى " يجوز فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون حالاً من :" أَعْنهم " أي تدور أعينهم حال كونها مشبهة عين الذي يغشى عليه من الموت.
الثاني : أنه نعت مصدر مقدر لقوله " ينظرون " تقديره : ينظرون إليك نظراً مثلَ نظرِ الذي يغشى عليه من الموت ويؤيده الآية الأخرى :﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد : ٢٠] المعنى يحسبون أي هؤلاء المانفِقُونَ يحسبون الأحزاب يعني قريشاً وغَطَفَانَ واليهود " لَمْ يذهبُوا " لم ينصرفوا عن قتالهم من غاية الجبنِ عند ذهابهم كأنهم غائبون حيث لا يقاتلون كقوله :﴿وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا ااْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ﴿وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ﴾ أي يرجعون إليهم للقتال بعد الذهاب ﴿يودوا لو أَنهم بادون في الأعراب﴾ من الخوف والجبن.
(قوله) :" بَادُونَ " هذه قراءة العامة جمع " باد " وهو المُقيم بالبادية يقال : بَدَا يَبْدُوا بداوةً إذا خرج إلى البَادِيةٍ، وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وابنُ يَعْمُرَ بُدَّى
٥٢٣
- بضم الباء وفتح الدال مشدّدة - مقصوراً كَغَازٍ وغُزّىً، وسَارٍ وسُرّىً.
وليس بقياس، وإنما قياسه في بادٍ وبُداةٍ، كقَاضٍ وقُضَاةٍ، ولكن حمل على الصحيح كقولهم :" ضُرَّب ".
وروي عن ابن عباس قراءة ثانية بزنة " عُدّىً " وثالثة :" بَدَوا " فعلاً ماضياً.
(قوله) :" يَسْأَلُونَ " يجوز أن يكون مستأنفاً، وإن يكون حالاً من فاعل " يَحْسَبُونَ " والعامة على سكون السين بعدها " همزة "، ونقل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنقل حركة الهمزة إلى السين كقوله :﴿سَلْ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم﴾ [البقرة : ٢١١] وهذه ليست بالمشهورة عنهما، ولعلها نقلت عنهام ذاشة، وإنا هي معروفة بالحسن والأمش، وقرأ زيدُ بنُ عَلِيٍّ والجَحْدَرِيُّ وقتادةُ والحَسَنُ " يَسَّاءلُونَ " بتشديد السين والأصل " يَتَسَاءَلُونَ " فأدغم، أي يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً.
فصل ﴿يسألون عن أبنائكم﴾ أخباركم، وما آل إليه أمركم " وَلَوْ كَانُوا " يعني هؤلاء المنافقين ﴿فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا ااْ إِلاَّ قَلِيلا﴾.
أي يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم فيقولون : قد قَاتَلْنَا، قال الكَلْبَيُّ :" إِلاَّ قَلِيلاً " أي رمياً بالحجارة.
وقال مقاتل : إلاَّ رياءً وسُمْعَةٌ من غير احتساب.
(قوله) تعالى :﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قرأ عاصم :" أُسْوَةٌ " بضم الهمزة حيث وَقَعَتْ هذه اللفظة والباقون بكسرها.
وهما لغتان كالغُدْوَةِ والغِدْوَةِ والقُدْوَةِ والقِدْوةِ والأُسْوة بمعنى الاقتداء أي قدوة صالحة، وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ وهو " الايتساء " فالأسوة من الايتساء كالقُدْوَة من الاقْتِدَاء، وائْتَسَى فُلانٌ بِفُلاَنٍ أي اقْتَدَى به، وأسوة اسم " كان " وفي الخبر وجهان :
٥٢٤