فصل دلت هذه الآية على أن العدة حق الزوج فيها غالب وإن كان لا يَسْقُطُ بإسقاطه ؛ لما فيه من حق الله تعالى.
ثم قال :" فَمَتِّعُوهُنَّ " أي أعطُوهُنَّ ما يستمتعن به قال ابن عباس : هذا إذا لم يكن سمى لها صداقاً فلها المتعة، وإن كان فرض لها صداقاً فلها نصف الصداق ولا متعة لها، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله :﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة : ٢٣٧]، قيل : إنه عام وعلى هذا فهل هو أمر وجوب أو أمر استحباب ؟ فقيل : للوجوب فتجب المتعة مع نصف المهر، وقيل : للاستحباب فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء، ثم قال :﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ أي خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار، وقيل : السراح الجميل : أن لا يطالبها بما آتاها.
قوله تعالى :﴿ يا أيها النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِى آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ أي مهورهن ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ وقوله :﴿مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ رد عليك من الكفار بأن تَسْبِي فتملك، وهذا بيان لما ملكت، وليس هذا قيداً بل لو ملكت يمينه بالشراء كان الحكم كذا، وإِنَّما خرج مَخْرَج الغالب.
واعلم أنه ذكر للنبي - ﷺ - ما هو أولى فإن الزوجة التي أُوتِيَتْ مهرها أطيب قلباً من التي لم تؤت والمملوكة التي سَبَاها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل لأنه لا يدري كيف حالها، ومن هاجرت من أقارب النبي - ﷺ - معه أشرف ممن لم تهاجِر، وقال بعضهم : إن النبي - ﷺ - ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حالاً لنا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب ؟ والظاهر أن الطالب في المرة الأولى إنما هو الرجل لحياء المرأة فلو طلب النبي - ﷺ - من المرأة التمكين قبل المهر للزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا ويؤكد هذا قوله :﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها.
واعلم أن اللاتي يملكت يمينه مثل صفية، وجُوَيْريَة، ومَارِيَة ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ يعني نساء قريش ﴿وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ﴾ يعني نساء بني زُهْرَة ﴿اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ إلى المدينة فمن لم تهاجر معه منهم لم يجز له نكاحها، روى أبو صالح عن أم هانىء أن رسول الله - ﷺ - لما فتح مكة خطبني لإنزل الله هذه الآية فلم أحل له
٥٦٧
لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من المطلقات، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
قوله " وامرْأَةً " العامة على النصب وفيه وجهان : أحدهما : أنها عطف على مفعول " أَحْلَلْنا " أي وأحْلَلْنَا لك امرأة ً موصوفة بهذين الشرطين، قال أبو البقاء وقد رد هذا قوم، وقالوا :" أَحْلَلْنا " ماضٍ، و " إنْ وَهَبَتْ " - وهو صفة للمرأة - مستقبل، " فأحللنا " في موضع جوابه، وجواب الشرط لا يكون ماضياً في المعنى، قالك وهذا ليس بصحيح لأم معنى الإحلال ههنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك كما تقول :" أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلاَناً إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ ".
والثاني : انه ينتصب بمقدر تقديره :" ويُحِلُّ لك امرأةً ".
قوله :" إنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرَادَ " هذا من اعتراض الشرط على الشرط، والثاني هو قيد في الأول ولذلك نعربه حالاً، لأن الحال قيد، ولهذا اشترط الفقهاء أن يتقدم الثاني على الأول في الوجود.
فلو قال : إن أَكَلْتُ إنْ رَكِبْتُ فأنتِ طالقٌ، فلا بد أن يتقدم الركوب على الأكل، وهذا له تحقق الحالية والتقييد كما ذكرنا، إذ لو لم يتقدم لخلا جزء من الأكل غير مقيد بركوب فلهذا اشترطنا تقدم الثاني وقد مضى تحقيق هذا وأنه يشترط أن لا تكون ثَمَّ قرينة تمنع من تقدم الثاني على الأول كقوله :" إنْ تَزَوَّجْتُك إِنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدِي حُرٌّ " (لأنه) لا يتصور هنا تقديمُ الطلاق على التَّزويج.
قال شهاب الدين : وقد عرض لي إشكال على ما قاله الفقهاء بهذه الآية وذلك أن الشرط الثاني هنا لا يمكن تقدمه في الوجود بالنسبة إلى الحكم الخاص بالنبي - ﷺ - لا أنه لا يمكن عقلاً، وذلك ان المفسرين فسروا قوله تعالوا :" إنْ أَرَادَ " بمعنى قبل الهِبَة لأن بالقبول منه (عليه الصلاة و) السلام يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة إذ القبول متأخر، وأيضاً فإن القصة كانت على ما ذكرته من تأخر إرادته من هِبَتها وهو مذكور في التفسير، وأبو حيان لما جاء إلى ههنا جعل الشرط الثاني متقدماً على
٥٦٨


الصفحة التالية
Icon