قُدْرَتِنَا، أو مُحِيطاً بِهِمْ فَيَعْلَمُوا أنَّهُمْ حَيْثُ كَانُوا فإنَّ أرضي وسمائي محيطةٌ بهم لا يخرجون من أقطارها وأنا القادرُ عليهم.
قوله :" إنْ نَشَأ " قرأ الأخَوانِ يَشَا يَخْسِفْ يُسْقِطْ بالياء في الثلاثة، والباقون بنون العظمة فيها، وهم واضِحَتَان، وأدغم الكسائي قال الفارسي : وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا يدغم فيها وإن كان الباء يدغم فيها نحو : اضْرِب فُلاَناً كما تدغم الباء في الميم كقولك : اضْرِب مالكاً وإن كانت الميم لا تدغم في الباء نحو : اضْمُمْ بكراً ؛ لأن الباء انحطت عن الميم يفقد الغُنَّةِ، وقلا الزمخشري : وليست بالقوية، وهذا لا ينبغي لأنها تواترت.
فصل لما ذكر الدليل بكونه عالم الغيب وكونه جازياً على السِّيئات والحسنات ذكر دليلاً آخر فيه التهديد والتوحيد فأما دليل التوحيد فذكره السماء والأرض فإنهما يدلان على الوحدانية كما تقدم مراراً ويدلان على الحشر والإعادة لأنهما يدلان على كمال القدرة بقوله تعالى :﴿أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى ﴾ [يس : ٨١] وأما التهديد فقوله :﴿إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ﴾ أي نجعل عين نافعهم ضارهم بالحق والكشف ثم قال :﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ﴾ أي : فيما يرون من السماء والأرض آية تدل على قدرتنا على البعث ﴿لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب﴾ تائب
١٩
راجع الله بقلبه.
ثم إنه تعالى لما ذكر من ينيب من عباده ذكر منهم من أناب وأصاب ومن جملتهم دَاوُد كما قال تعالى عنه :﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾ [ص : ٢٤].
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤
قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً﴾ فقوله :" مِنَّا " إشارة إلى بيان فضل داود لأن قوله :﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ منّا فضلاً﴾ مستقبل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتَى الملك زيداً خلعةً، فإذا قال القائل : آتاه منه خلعَةً يفيد أنه كان من خاصِّ ما يكون له فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض، ونطيره قوله تعالى :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ [التوبة : ٢١] فإنَّ رحمه الله واسعةٌ تصلُ إلى كل أحد لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمه من عنده لخواصِّه، والمراد بالفضل النبوة والكتاب، وقيل : الملك، وقيل : جمعي ما أوتِيَ من حُسْن الصوت وتَلْيِين الحديد وغير ذلك مما خُصَّ به.
قوله :" يَا جِبَالُ " محكيّ بقول مضمر، ثم إن شئت قدرته مصدراً ويكون بدلاً من " فضلاً " على جهة تفسيره به كأنه قيل : آتيناهُ فضلاً قولَنَا يَا جبالُ، وإن شئت جعلته مستأنفاً.
قوله :" أَوِّبي " العامة على فتح الهمزة، وتشديد الواو، أمراً من التَّأويب وهو
٢٠
التَّرجيع، وقيل : التسبيح بلغة الحَبَشَة، وقال القُتَيْبيُّ : أصله من التأويل في السير وهو أن يسير النهار كله، وينزل ليلاً كأنه قال : أدْأَبِي النَّهار كُلَّهُ بالتسبيح معه، وقال وهب : نوحي معه، وقيل : سيري معه، وقيل : سيري معه، والتضعيف يُحتمل أن يكون للتكثير، واختار أبو حيان أن يكون للتعدي قال : لأنهم فَسَّروه برجع مع التسبيح، ولا دليل فيه لأنه دليل معنى.
وقرأ ابنُ عباس والحَسَنُ وقتادةُ وابنُ أبي إسحاق : أُوبِي بضم الهمزة أمراً من آبَ يَؤُوبُ أي ارجع معه بالتسبيح.
قوله :" والطير " العامة على نصبه وفيه أوجه : أحدهما : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً.
الثاني : أنه مفعول معه قاله الزجاج.
ورد عليه بأنه قبله لفظ " معه " ولا يقتضي العامل أكثرَ من مفعول معه واحد إلا بالبدل أو العطف لا يقال : جَاءَ زَيْدٌ مَعَ بَكْرٍ مَعَ عَمْروٍ قال شهاب الدين : وخلافهم في تَقَصِّيه حالين يقتضي مجيئه هنا.
الثالث : أنه عطف على " فضلاً "، ولا بدّ من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتَسْبِيح الطير.
٢١
الرابع : أنه منصوب بإضمار فعل أي سَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ.
قاله أبو عمرو، وقرأ السُّلَميُّ والأعرجُ ويعقوبُ وأبو نوفل وأبو يَحْيَى وعاصمٌ - في رواية - والطَّيْرُ بالرفع، وفيه أوجه : النسق على لفظ " الجبال " وأنشد : ٤١١٤ - أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا
فَقَدْ جَوزتُمَا خَمَرَ الطَّرِيق
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٠