وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة عن قول الله - عزّ وجلّ - : أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية.
فقالت : يا بُنّيِّ كلُّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - ﷺ - شهد له رسولُ الله - ﷺ - بالخير وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحِقَ به وأما الظالم فمثلِي ومثلُكم.
فجعلت نفسها معنا وقال مجاهد والحسن وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المَشْأمة، ومنهم مقتصد أصحاب المَيْمنَة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم.
وعن ابن عباس قال : السابقُ المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة.
وقيل : الظالم هو الرَّاجِحُ السيئات والمقتصد هم الذي تساوت سَيِّئَاتُهُ وحسناتُهُ والسبق هو الذي رَجَحَتْ حسناته.
وقيل : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطه خير من ظاهره.
وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحِّد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد.
وقيل : الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمُقْتَصدِ لأنه بين الخوف ولارجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة.
وقالأبو بكر الوراق : ربتهم على مقامات الناس لأن أحْوالَ العبدِ ثلاثةٌ معصيةٌ وغلفةٌ ثم توبةٌ ثم قرب فإذا عصى دخل في حَيِّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عِدَاد السابقين.
قويل غير ذلك وأما من قال : المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله :﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ [فاطر : ٢٥] فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصفطى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله :﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ يدل على أن العباد أكابر مكرَّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين (منهم) أشرف
١٣٩
ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلماً.
فإن قيل : كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع ؟ فالجواب : أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال - عليه (الصلاة و) السلام - :" لاَ يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ " الحديث.
وقال آدمُ - عليه (الصلاة و) السلام - مع كونه مصطفى :﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف : ٢٣] وأما الكافر فيضع قبله الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطْمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكير في آلاَءِ الله ووجه آخر وهو أن قوله :" منهم " غيرُ راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى : إنّ الذي أويحنا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتباً " ومنهم " أي ومن قومكم " ظالم " كَفَر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به ولم يأت بجميع ما أمر به المراد منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله :﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصْطِفَاء في الخِلقة وإرسال الرسول إليهم وأنزل الكتاب.
والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم المُؤْمِنُونَ.
فصل معنى سابق بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر الله وإرادته " ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبيرُ " يعني إيراثهم الكتابَ، ثم أخبر بثوابهم فقال :﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ يعين الأصناف الثلاثة.
قوله :" جنات عدن " يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر، وأن يكون بدلاً من " الفَضْلُ " قال الزمخشري وابن عيطة إلاَّ أنَّ الزمخشري اعترض
١٤٠


الصفحة التالية
Icon