أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المُتَناظِرَيْنِ فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول، فلا يجد أمراً إلا باليمين فيقول : وَاللَّهِ إنِّي لَسْتُ مُكَابِراً، وإنَّ الأمر على ما ذكرت ولم علمت خلافه لرَجَعْتُ إليه فههنا يتعين اليمين، فكذلك النبي عليه (الصلاة و) السلام أقام البراهين، وقالت الكفرة :﴿مَا هَـذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ﴾ [سبأ : ٤٣] وقالوا ﴿لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأحقاف : ٧] فالتمسك بالأيْمان لعدم فائدة.
الدليل الثالث : أن هذا ليس مجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة ودليل كَوْنه مُرْسَلاً هو المعجزة والقرآن كذلك.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر في صورة الدليل.
وما الحكمة في صورة اليمين ؟ فالجواب : أن الدليل إذا ذكر لا في صورة اليمين، قد لا يُقْبِلُ عليه السامع فلا يفيد فائدة، فإذا ابتدأ به على صورة اليمين لا يقع ولا سيما من العظيم إلا على عظيم، والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصْغاء إليه فلصروة اليمين تقبل عليه الأسماع لكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب.
قوله :﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم.
والمسقيم أقرب الطرق الموصلة إلى المقصِد والدين كذلًك فإنه يوصل إلى الله وهو المقصد.
قوله :﴿تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ قرأ نافعٌ وابنُ كَثيروأبُو عمرو وأبو بكر برفع " تنزيلُ " على أنه خبر متبدأ مضمير أي هُو تنزيل.
ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ إذا جعلت " يس " اسماً للسورة أي هذه السورة المسمّاة بـ " يس " تنزيلٌ، أو هذه الأحرف المقطعة تنزيلٌ.
والجملة القسمية على هذا اعتراض.
والباقون بالنصب على المصدر كأنه قال : نَزَلَ تَنْزِلَ العَزِيزِ الرحيم لتنذر.
أو على أنه معفول بفعل مَنْوِيِّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعين تَنْزِيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وهذا اختيار الزمخشري
١٦٨
وهو المراد بقوله :" أو عَلَى المَدْح " وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداء مضمر و " تنزيل " مصدر مضاف لفاعله.
وقيل : هو بمعنى منزِّل وقرأ أبو حيوة واليزيدي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة تَنْزِيل بالجر على النعت للقرآن أو البدل منه، كأن قال : والقُرْآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين.
وقوله :﴿الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ إشارة إلى أن الملك إذا أرسل فالمرسَلُ إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويُعِينُوا المُرْسَل، وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزاً، أو يخالفوا المُرْسِل ويكرموا المُرْسَل وحينئذ لا يقدر الملك.
أو يقال : المُرْسَلُ يكون معه في رسالته مَنْعٌ عن أشياء وإطلاق لأشياء والمنع يؤكده العزة والإطلاق يدل على الرحمة.
قوله :﴿لِتُنْذِرَ﴾ يجوز أن يتعلق بـ " تَنْزِيلُ " أو بمعنى المرسلين يعني بإضمار فعل يدل عليه هذا اللفظ أي أرْسَلْنَاك لِتُنْذِرَ.
قوله :﴿قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ يجوز أن تكون " ما " هذه بمعنى الذي، وأن تكون نكرة موصوفة والعائد على الوجهين مُقَّدرٌ.
أي ما أنذره آباؤهم فتكون ما وصلتها أو وصفتها في محل نصب مفعولاً ثانياً لقوله :﴿لِتُنذِر﴾ كقوله :﴿إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً﴾ [النبأ : ٤٠] أو التقدير لِتُنْذِرَ قَوْماً الذي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ من العذاب، أو لتنذر قوماً عذاباً أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ.
ويجوز أن تكون مصدرية أي إنْذَار آبَائِهِم أي مثله.
ويجوز أن تكون ما
١٦٩
نافية، وتكون الجملة المنفية صلة لـ " قوماً " أي قوماً غير منذر آباؤهم.
ويجوز أن تكون زاذدة أي قوماً أنذر آباؤهم.
والجملة المثبتة أيضاً صفة لـ " قوماً " قال أبو البقاء.
وهو مناف للوجه الذي قبله.
فعلى قولنا ما نافية، فالمعنى ما أنذر آبَاؤُهُم الأَدْنونَ وإن قلنا : ما للإثبات فالمعنى ليُنْذَرُوا بما أنذر آباؤهم الأولون.
وقوله :﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ أي عن الإيمان والرشد.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦٢


الصفحة التالية
Icon