قوله :﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾ وجب العذاب ﴿عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ﴾ وهذا كقوله :﴿وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر : ٧١] وفي الآية وجوه : أشهرها : أن المراد من القول هو قوله تعالى :﴿وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ [السجدة : ١٣] ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ﴾ [ص : ٨٥].
والثاني : أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي وُجِد وثَبَتَ بحيث لا يُبَدَّل بغيره.
لا يبدل القول لدي.
الثالث : المراد لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبانَ بُرْهَانُهُ، فإنهم لَمَّا لم يؤمنوا عندما ما حق القول واستمروا، فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العِنَاد وعند العناد لا يُفيد الإيمان.
وقوله :﴿عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ على هذا الوجه معناه أن من لم تَبْلُغْه الدعوة والبُرْهَانُ قليلُون فحق القَول على أكثرهم هو من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر، لأن أكثر الكفار ماتوا على الكفر.
قوله تعالى :﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾ نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ، وذلك أن أبا جهل كان (قد) حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو
١٧٠
يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بين مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلَّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له : ماذا صنعت ؟ فقال : ما رأيته، ولقد سمعت كلامه، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي، فأنزل الله تعالى :﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾.
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال :﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾ وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعده : بل عيانوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً.
وقال الفراء : معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى :﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء : ٢٩] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة.
الرابع : قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم : إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى :﴿فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون﴾ يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى :﴿لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة : ١٤٣] أي صلاتكم عند بعض المفسرين، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يُصَلّون ولا يُزَكون.
قوله :﴿فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ﴾ في هذا الضمير وجهان : أشهرهما : أنه عائد على الأَغْلاَل، لأنها هي المُحَدَّث عنها، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن، لأنه يلبس العُنُقَ جَميعَهُ.
قال الزمخشري : والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معنا من أن يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ.
الثاني : أن الضمير يعود على " الأيدي " لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق، واليدين، ولذلك سمي جامعة، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة
١٧١
أعني الغُلّ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ إلا أن الزمخشري قال : جعل الإقماح نتيجة قوله :﴿فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ﴾ ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر.
وفي هذا الكلام قولان : أحدهما : أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة.
والثاني : أنه استعارة، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين.
وقال الزَّمْخَشَرِيُّ :(مثل) لتصميمهم على الكفر، وأنَّه لا سبيل إلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم تعامون عن آيات الله.
وقال غيره.
هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم بينهم وبينه (و) قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين وتقدم تفسير الأّذْقان.
وقال ابن الخطيب : المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت : ٥٣] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى (في)
١٧٢


الصفحة التالية
Icon