نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق.
وعلى هذا فقوله :﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ....
وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾ إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في (الأنْفُسِ و) الآفاق.
" فَهُمْ مُقْمَحُونَ " هذا الفاء لأحسن ترتيب، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق.
أو ولما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ.
والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع، وهو من قَمَحض البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها - وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً، والجَمْع قِماحٌ وأنشد : ٤١٦٨ - وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ
نَغُضُّ الطَّف كَالإبِلِ القِمَاحِ
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٧٠
يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة، فأصابهم المَيَدُ.
قال الزجاج قيل : الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ، لأن الإبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها، لشِدة البرد وأنشد أبو زيد للهذلي : ٤١٦٩ - فَتًى مَا بْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا
وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ
١٧٣
كذا رواه بضم القَاف، وابنُ السِّكِّيت بكسرها.
وقال اللَّيْثُ القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكرية ثم يعود.
وقال أبو عبيدة إذا رفع راسه عن الحوض ولم يشرب والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما قتدم تحريه.
وقال الحسن : القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه.
وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى.
وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر مستدلاً بالبيت المتقدم : ٤١٧٠ -...........
نغض الطرف كالإبل القماح
وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم.
وسأل الناس أمير المؤمنين (علياً) - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجلع يده تحت لِحْيَتِهِ ورفع رأسه وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود " فَهيَ " على الأيدي.
قوله :﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً﴾ تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف والحمد لله.
وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فيبغي أن يَسْلُكُو الطّريقة المستقيةَ " مِنْ بَيْنِ أيْدِيهمْ سَدًّا " فلا يقدرون على السلوك وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه منا لله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكمنه ريجع، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا
١٧٤
يكون موضع إقامة يهلك.
فقوله ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً﴾ إشارة إلى هَلاَكِهِمْ فصاروا بمنزلة من يبنى عليه الحائط وهو واقفٌ.
قوله :﴿فأغشيناهم﴾ العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف.
وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز، والحَسَنُ، وابنُ يعْمُرَ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة.
وهو ضعف البصر.
يقال : عِشِيَ بَصَرُهُ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا.
وهذا يحتمل الحقية والاسْتِعَارَة.
فصل قوله :﴿فَأغْشَيْنَاهُمْ﴾ بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه ؟ فيقال من وجهين : أحدهما : أن ذلك بيان لأمور مرتبة لي بعضها سبباً في العبض فكأنه تعالى قال : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإقماحهم، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء ما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله : جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً.
والثاني : أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلف وقدّامِهِ سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبثى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً.
فَإنْ قيلَ : ذكر اسد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ، ولم يذكر من اليَمِين والشِّمالِ فما الحكمة فيه ؟.
فالجواب : إن قلنا : إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر.
وأما على غير ذلك فيقال : إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء، ومُؤَلِّين
١٧٥