قولهم :" وليمسنكم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ " كأنه قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد : ولَيَمسَّنَّكُمْ بسبب الرجم منَّا عذاب أليم أي مُؤْلِم.
وإن قلنا : الرجم الشتم فكأنهم قولوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحِسِّيِّ.
إذا فسرنا " أليم " بمعنى مؤلم فالفَعِيلُ بمعنى مُفْعِل قليلٌ.
ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله :﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة : ٢١] أي ذاتِ رِضَا أي عذابٌ ذُو ألَمٍ، فيكون فعلي بمعنى فَاعِلٍ وهو كثيرٌ.
ثم أجابهم المرسلون فقالوا " طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ " أي شؤمكم معكم، أي كُفْركُمْ.
قوله :" طائركم " العامة على " طائِر " اسم فاعل أي ما طَارَ لكم من الخير والشر، فغبر به عن الحظ والنصيب وقرأ الحسن - فيما روى عنه الزمخشري " اطَّيْرُكُمْ " مصدر اطَّيَّرَ الذي أصله تَطَيَّرَ، فلما أريد إدغامه أبدلت الفاء طاء وسكنت واجتلبت همزة الوصل وصار اطَّيَّر، فيكون مصدره " اطَّيَّاراً ".
ولما ذكر أبو حيان هذا لم يرد عليه وكان (هو) في بعض ما رد به على ابن مالك
١٨٦
في شرح التسهيل في باب المصادر أن مصدر " تَطَيَّر وتَدَارأ " إذا أدغما وصار " اطَّيَّر وادَّارأ " لا يجيء مصدرهما علهيما، بل عل أصلهما، فيقال : اطَّيَّر تَطَيُّراً، وادَّارأَ تَدَرُءاً.
ولكن هذه القراءة تَردُّه إنْ صحت وهو بعيدٌ.
وقد روى غيره طَيْرُكُمْ بياء ساكنة ويغلب على الظن أنها هذه وإنما تصحفت على الرواي فحسبها مصدراً وظن أن ألف " قالوا " همزةُ وَصْلٍ.
قوله :﴿أَإِن ذُكِّرْتُم﴾ قرأ السبعة بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية وهم على أصولهم من التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه في سورة (البقرة) واخْتَلَفَ سيبويه ويونسُ إذا اجتمع استفهام وشرط أَيُّهُما يُجَابُ ؟ فذهب سيبويه إلى أجابة الاستفهام، ويونُس إلى إجابة الشرط.
فالتقدير عند سيبويه أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَتَطَيُّرُون وعند يونس تَطَيُّرُوا مجزوماً
١٨٧
فالجواب للشرط على القولين محذوف.
وقد تقدم هذا في سورة الأنبياء.
وقرأ أبو جفعر وطلحة وزِرّ بهمزتين مفتوحتين، إلاَّ أنَّ زِرّاً لم يسهل الثانية، كقوله : ٤١٧٢ - أَإِنْ كُنْتَ بْنَ أَحْوَى مُرَحَّلاً
فَلَسْتَ برَاعٍ لابْن عَمِّكَ مَحْرَمَا
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٨٠
وروي عن أبي عمرو وزرِّ أيضاً كذلك، إلا أنها فصلاً بأَلِفٍ بني الهَمْزَتَين وقرأ المَاجَشُون (بهمزة ) واحدة مفتوحة.
وتخرج هذه القراءات الثلاث على حذف لام العلة أي (أَ) لأَنْ ذُكّرْتُمْ تَطَيِّرْتُمْ فـ " تطيرتم " هو المعلول، وأن ذكرتم عليته.
والاستفهام منسحب عليهما في قراءة الاستفهام.
وفي غيرها يكون إخبار بذلك.
وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسروة وهي شرط من غير استفهام، وجوابه محذوف أيضاً.
وقرأ الأعمش والهَمْدَانيُّ أين ذكرتم فطائركم معكم أو صُحْبَتُكُمْ طائركم، لدلالة ما تقدم من قوله :﴿طَائِرُكُم مَّعَكُمْ﴾ ومن يجوز تقديم الجواب لا يحتاج إلى حذف.
١٨٨
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصْمَعِيُّ عن نافع ذُكِرْتُمْ بتخفيف الكاف.
فصل قوله :" أئن ذكرتم " جواب عن قوله :﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ أي أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي وعظتم بالله وبين لكم الأمر بالمعجز والبُرْهان " بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ " مشركون مجاوزون حيث تجعلون ما يُتَبرَّكُ به يتشاءم بِهِ وتقصدون إيلام من يجب إكرامه، أو مسرفون حيث تكفرون ثم تُصِرُّونَ بعد ظهور الحق بالمُعْجِزة والبُرهان.
فإن قيل :(بل) للإضراب فما (الأمر) المضروب عنه ؟ فالجواب : يحتمل أن يقال قوله : أَئِنْ ذُكِّرتم واردة على تكذيبهم فإنهم قالوا : نحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان لا بل قوم مسرفون.
ويحتمل أن يقال : أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون.
ويحتمل أن يقال : أنحن مستحون الرجم والإيلام وإن بينا صحَّةَ ما أتينا به لا بل أنتم قوم مسرفون.
فصل ذكر المفسرون أن عيى - عليه (الصلاة و) السلام - بعث رجلين إلى أهل أنطاكية فَدَعَوَا إلى توحيد الله وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهم الملك فأرسل بعدهما شمْعُون، فأتى الملك، ولم يدع الرسالة وقرب نفسه من الملك بحسن التدبير، ثم قال : إني أسْمَعُ (أنَّ) في الحبس رَجُلَيْنِ يَدِّعيَا(نِ) أمراً بديعاً أفلا يحضران نسمع كلامهما ؟ فقال الملك : بلى فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقَّةَ فقال شمعون : وهل لكما بيِّنَةٌ ؟ قالا : نعم فأبرءا الأكمه والأبرص وأَحْيَيا الموتى.
فقال شمعون : يا أيها الملك : إن شئت أن تَغْلِبَهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئاً من ذلك فقال له الملك أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فقال شمعون : فَإذَنْ ظهر لي الحق من جانبهم فآمن الملك (وقوم) وكفر آخرون.
وكانت الغلبة للمكذبِينَ.
١٨٩