جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٨٠
قوله :﴿وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ في تعلقه بما قبله وجهان : أحدهما : أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث أمن بهم الرجل الساعي.
وعلى هذا فقوله :" مِنْ أَقْصَى المَدِينَة " فيه بلاغة باهرة لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل و(هو) قد آمن دل على (أن) إنذارهم وإبلاغهم بلغ إلى أقصى المدينة.
والثاني : أن ضرب المثل لما كان لتسلية قلب محمد - عليه (الصلاة و) السلام - ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعي المؤمنين في تصديق أنبيائهم، وصبرهم على ما أوذوا، ووصول الجزاء الأوفر إليهم ليكون ذلك تسليةً لقلب أصحاب محمد - عليه الصلاة والسلام -.
قوله :﴿رجل يسعى﴾ في تنكير " الرجل " مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان : الأولى : أن يكون تعظيماً (لشأنه) أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية : أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال : إنهم تواطئوا والرجل هو حبيب النَّجار كان ينحت الأصنام.
وقال السدي : كان قصاراً وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقياً قد أسرع فيه الجُذَامُ وكان منزلة عند أقصى باب المدينة وكان مؤمناً آمن بمحمدٍ - ﷺ - قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله، ورأى فيه نعت محمد وبعثته وقوله :" يسعى " تصيرٌ للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جَهْدَهم في النُّصْحِ.
قوله :﴿قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ﴾ تقدم الكلام في فائدة قوله :" يا قوم " عند
١٩٠
قوله موسى :﴿يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة : ٥٤].
فإن قيل : هذا مثل مؤمن آل فرعون ﴿وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ﴾ [غافر : ٣٨] وهذا قال :" اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ " فما الفرق ؟.
فالجواب : هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السَّبِيلَ وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال :" اتَّبِعُونِي في الإيمان بمُوسى وهَارُونَ - عليهما (الصلاة و) السلام - واعلموا أنه لو لم يكن خيراًلما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته " ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول : أنتم تعلمون اتّباعي لهم.
واعلم أنه جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه فقوله :" اتبعوا " نصيحة وقوله :" المرسلين " إظهار إيمانه وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعياً في النصيحة وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله :" يسعى " على إرادته النصح.
قوله :﴿مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً﴾ بدل من " المرسلين " بإعادة العامل إلا أن أبا حيان قال : النحاة لا يقولون ذلك إلا إذا كان العامل حرف (جر) وإلا فلا يسمونه بدلاً بل تابعاً وكأنه يريد التوكيد اللفظي بالنسبة إلى العامل.
فصل هذا الكلام في غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونَهُمْ مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه والامتناع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل الأجرة وإما عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيمة الموصولة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا بمهتدين فاتبعوهم.
قوله :﴿وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم ليكون الكلام أسرع قبولاً ولذلك جاء قوله :﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ دون " وإليه أَرْجِعُ " وقوله ﴿أَأَتَّخِذُ﴾ مبني على كلام الأول وهذه الطريقة أحسن من ادِّعاء
١٩١


الصفحة التالية
Icon