فالجواب : تبين الفرق بينه وبنيهم لأنهما من قبيلة واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأُهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ونسبهما نم قبلية واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم وهم أقاربه لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يُصِبْهُم العذاب.
فإن قيل : لم خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جنداً قبله أيضاً فما فائدة التخصيص ؟.
فالجواب : أن استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك.
فإن قيل : قال :" من السماء " وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد ؟.
فالجواب من وجهين : أحدهما : أن يكون المراد ما أنزل عليهم جنداً بأمر من السماء فتكون للعموم.
والثاني : أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جنداً وإنما كان بصيحة أخذتهم وخربت ديارهم.
فإن قيل : أي فائدة في قوله :﴿وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ﴾ مع قوله :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا﴾ وهو يستلزم أن لا يكون من المنزلين ؟.
فالجواب : أنه قوله :" وما كنا " أي ما كان ينبغي أن ينزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك والمعنى وما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى الإنزال أو وما أنزلنا وما كمنا منزلين في مثل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة أي وما أنزلنا على قومه من بعده أي على قوم حبيب من بعد قتله من جنده وما كنا منزلين ما ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطُّوفَانِ والصَّاعِقَةِ والرِّيح.
فإن قيل : فكيف أنزل الله جنوداً في يوم " بدر " وفي غير ذلك حيث قال تعالى :﴿رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ [الأحزاب : ٩].
فالجواب : أن ذلك تعظيماً لمحمد - عليه (الصلاة والسلام) وإلاَّ لكان تحريك رِيشَةٍ من جَنَاح ملكٍ كافياً في استئصالهم ولم تكن رسل (عيسى) عليه الصلاة
١٩٩
والسلام في درجة محمد عليه السلام ثم بين الله تعالى عقوبتهم فقالك " إنْ كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحَدِةً ".
قوله :﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً﴾ العامة على النصب على أنَّ " كان " ناقصة واسمها ضمير الأَخْذ لدلالة السِّياق عليها و " صَيْحَةً " خبرها وقرأ أبو جعفر وشيبَةُ ومُعاذ القَارئ برفعها على أنها التامة أي إن وَقَعَ وحَدَثَ وكان ينبغي أن لا يلحق تاء التأنيث للفصل " بإلا " بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء نحو : مَا قَامَ إلاَّ هِنْدٌ وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا :﴿لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف : ٢٥] كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله : ٤١٧٥ -...............
وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٩٧
وقوله : ٤١٧٦ - مَا بَرِئَت مِنْ رِيبَة وَذَمّ
فِي حَرْبِنَا إلاَّ بَنَاتُ العَمّ
قال الزمخشري : أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنّث لما بعده من المفسر وهو الصيحة وقوله :" وَاحِدَةٌ " تأكيد لكون الأمر هيّناً عنده وقوله :﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُون﴾ إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب.
٢٠٠
فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم وأما الشهوة فلأنهم احتلموا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الخالية فإذن كانوا كالنار الموقَدَة لأنهم كانوا جبارين ومستكبرين كالنار ومن خلق منها " فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ " ميتِّون.
قال المفسرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صح بهم صيحة واحدة فإذا هُمْ خامدن ميتون.
قوله :﴿يا حَسْرَةً﴾ العامة على نصبها وفيه وجهان : أحدهما : أنها منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تَحسَّرُوا حَسْرَةً.
والثاني : أنها منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها كقوله : ٤١٧٧ - فَيَا رَاكِباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغاً
نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقِيَا
ومعنى النداء هنا على المجاز، كأنه قيل : هذا أوانك فاحضري وقرأ قتادة وأبيّ - في أحد وجهيه - يا حسرة بالضم جَعَلها مقبلاً عليها وأبيّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحُسَيْن " يَا حَسْرَةً العِبادِ " بالإضافة فيجوز أن تكون مضافاً لفاعله أي تَتَحَسَّرُونَ على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافاً لمفعوله أي يَتَحَسَّرُ عليهم (من) غيرهم.
وقرأ أبو الزناد وابن هُرْمز وابن جُنْدُب " يا حَسْرَهْ " بالهاء
٢٠١
(المهملة) المبدلة من تاء التأنيث وصلاً وكأنهم أَجْروا الوَصْل مُجْرَى الوقف وله نظائر مرت وقال صحب اللوامح وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التَّاهَةِ بمعنى التأوه ثم وصلوا على تلك الحال وقرأ ابن عباس أيضاً : يا حَسْرَة بفتح التاء من غير تنوين ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزئ بالفتحة عن الألف كما اجتزئ بالكسرة عن الياء ومنه : ٤١٧٨ - وَلَسْتُ براجِعِ مَا فَاتض مِنِّي