المعرفة بنكرة قال : وقد تبعه ابنُ مالك ثم خرج أبو حيان الحمل على الحال أي الأرض مُحْيَاةً والليل مُنْسَلِخاً منه النهار واللئيم شاتماً لي، قال شهاب الدين : وقد اعتبر النحاة ذلك في مواضع فاعتبروا معنى المعرف بأل الجنسية دون لفظه فَوَصَفُوهُ بالنَّكرة الصَّرِيحَة، نحو : يا لرجل خير منك على أحد الأوجه.
وقوله :﴿إِلاَّ الَّذِينَ﴾ [العصر : ٣] بعد ﴿إِنَّ الإِنسَانَ﴾ [العصر : ٢] وقوله :﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ﴾ [النور : ٣١] و " أهْلَكَ النَّاسُ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ " كل هذا ما روعي فيه المعنى دون اللفظ، وإن اختلف نوع المراعاة، ويجوز أن يكون " أحْيَيْنَاهَا " استئنافاً بين به كونَها آيةً.
فصل وجه التعلق بما قبله من وجهين : أحدهما : أنه لما قال : كان ذلك (إشارة) إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستعبادهم وإصرارهم وعنادهم فقال :﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾ كذلك يُحْيِي المَوْتَى.
وثانيهما : أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذِّبين وكان شُغْلُهم التوحيد ذكر ما يدل عليه وبدأ بالأرض لكونها مكانَهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون ؟ فإن قيل : الأرض آية مطلقة فلم خصها بهم حيث قال :" وآيَةٌ لَهُمْ " ؟.
فالجواب : الآية تعدد وتردد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه أما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له لدليل فالنبي - عليه (الصلاة و) السلام - وعباد الله المخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم وهذا كما قال الله تعالى :﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ﴾ [فصلت : ٥٣] وقال :﴿أَوَلَمْ
٢١١
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت : ٥٣] يعني أنت كفاك الله معرفاً به عرفت كل شيء فهو شهيدٌ لك على كل شيء وأما هؤلاء نبين لهم الحق بالآفاق والنفس وكذلك ها هنا الأرض آية لهم، فإن قيل : إن قُلْنا الآية مذكروة للاستدلال على جَوَاز إحياء المَوْتَى فيكفي قوله :" أحْيَنْنَاهَا " ولا حاجة إلى قوله :﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً﴾ وغير ذلك وإن قلنا : إنه للاستدلال على وجود الإله ووحدانيته فلا فائدة في قوله :﴿الأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ فقوله :﴿الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾ كافٍ في التوحيد فما فائدة قوله :﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً﴾ ؟ فالجواب : هي مذكورة للاستدلال عليها ولكلّ ما ذكره الله تعالىً فائدة أما فائدة قوله :﴿وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّا﴾ فهو بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حباً كان ذلك إحياء تامًّا لأن الأرض المُخْضرَّة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحَبَّ دون ما تنبيه الحياةُ، فكأنه تعالى قال : الذي أحيا الأرض إحياء كاملاً منبتاً للزّرع يحي الموتى إحياء كاملاً بحيث يدري الأمور وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تقرير النعمة، كأنه يقول : آية لهم الأرضُ فإنها مكانُهم ومَهْدُهُم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها في نعمة ثم إحياؤها نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه ثم إخراج الحبِّ منها نعمة ثالثة فإن قوتهم تصير في مكانهم وكان يمكن أن يجعل رزقهم في السماء أو الهواء فلا يحصل لهم الوُثُوقُ ثم جعل الحياة منها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحَبَّ في كل سنة والأشجار بحيث يوجد منها الثِّمار فيكون بعد الحبِّ وجوداً ثم فجر منها العيون ليحصل لهم الاعتمال بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين (يقع) المطر.
فصل المعنى " أَحْيَيْنَاها " بالمطر " وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا " يعني الحِنْطَة والشعير وما أشبههما " فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ " أي من الحب " وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ " بساتين " مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وفَجَّرْنا فِيهَا " في الأرض " مِنَ العُيُونِ لِيَأْكُلُوا منْ ثَمَرِهِ " الحاصل بالماء.
قوله :﴿وَفَجَّرنَا " العامة على التشديد تكثيراً لأنها مخففة متعدّية، وقرأ جَنَاحُ بْنُ
٢١٢
حبيش بالتخفيف، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي يَنْبُوعاً كما في آية :" سًبْحَانَ ".
قوله :{مِن ثَمَرِهِ﴾ قيل : الضمير عائد على النخيل ؛ لأنه أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى على هذا لتقدم شيئين وهما الأعْنَاب والنَّخِيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما، وقيل يعود على جنات وعاد بلفظ المفرد ذهاباً بالضمير مَذْهَبَ اسم الإشارة كقول رؤبة : ٤١٨١ - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبلَقْ
كَأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٠٩