فذلك قوله :" والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم " وروى عَمْرُو بن دِينَار عن ابن عباس والشمس (تجري) لا مستقرّ لها أي لا قرار لها ولا وقوف وهي جارية أبداً.
قوله :﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى جَرْي الشَّمْس أي ذلك الجري تقدير الله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله العزيز الغالب والعليم الكامل العلم أي قادر على إجرائها على الوجه الأنفع وذلك من وجوه : الأول : أن الشمس لو مرّت كل يوم على مُسَامَتَةٍ واحدة لاحترقت (الأرض) التي تُسَامِتُها بمرورها عليها لك يوم وبقي الجمود مستولياً على الأماكن الأُخَر فقدر الله لها بُعْداً لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والإسخان في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج ليخرج النبات والثمار من الأرض والشجر ويَنْضُجَ ويَجفَّ.
الثاني : قدر لها في كل يوم طُلُوعاً وفي كل ليلة غروباً، لئلا تَكِلَّ القوى والأبصار بالسهر والتعب ولئلا يَخْرُبَ العالم بترك العِمَارة بسبب الظلمة الدائمة.
الثالث : جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زُحَلَ لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئةً السير لدامتْ زماناً كثيراً في مُسَامَتَةِ شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث بقَدْر ما ينضج من الثمار في بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
قوله :﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمور برفع " القمر " والباقون بنصبه فالرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال والوجهان مستويان لتقدم جملةٍ ذاتِ وجهين وهي قوله :﴿والشَّمْسُ تجري﴾ فإن راعيت صدرها
٢١٨
رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجُزَهَا نصبت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجْزَهَا نصبت لتعطف فعلية على مثلها وبهذه الآية يبطل (قول) الأخفش : إنه لا يجوز النصب في الاسم إلا إذا كان في جملة الاشتغال ضمير يعود على الاسم الذي تضمنته جملةٌ ذات وجهين : قال : لأن المعطوف على الخبر خبر فلا بد من ضمير يعود على المبتدأ فيجوز :" أَزْيْدٌ قَامَ وعمراً أكْرَمْتُه فِي دَارِهِ " ولو لم يقل " في داره " لم يجز ووجه الردّ من هذه الآية أن أربعة من السبعة نصَبُوا وليس في جملة الاشتغال ضمير يعود على الشمس وقد أجمع على النصب في قوله تعالى :﴿وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا﴾ [الرحمن : ٧] بعد قوله :﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن : ٦].
قوله :﴿مَنَازِلَ﴾ فيه أَوْجُهٌ : أحدها : أنه مفعول ثان لأن " قَدَّرْنَا " بمعنى صَيَّرْنَا.
الثاني : أنَّه حال ولا بد من حذف مضاف قبل منازل تقديره : ذَا مَنَازِلَ قال الزمخشري : لا بُدَّ من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام، لأن القمر لم يجعل نفسه مَنَازلَ.
الثالث : أنه ظرف أي قدرنا مَسِيرَهُ فِي مَنَازِلَ وتقدم نحوه أول يونس.
قوله :﴿حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ﴾ العامة على ضم العين والجيم.
وفي وزنه وجهان : أحدهما : أنه فُعْلُولٌ.
فنونه أصلية وهذا هو المرجح.
٢١٩
والثاني : وَهُو قول الزجاج : أن نونه مزيدة ووزنه فُعْلُونٌ مشتقاً من الانْعِرَاج وهو الانعطاف وقرأ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان كالبُزيون والبِزْيُون والعرجون عُود العِذْق ما بين الشماريخ إلى مَنْبِتِهِ من النخلة وهو تشبيه بديع شبه به القمر في ثلاثة أشياء دقَّتِهِ واستقواسه واصْفِرَارِهِ لأن العِذق الذي عليه الشماريخ إذا قَدِمَ وعَتِقَ دَقَّ وتَقَوَّسَ واصْفَرَّ والقديم ما تَقَادَمُ عَهْدُهُ بحكم العادة ولا يشترط في جواز إطلاق لفظ القديم عليه مدةً بعينها بل إنما يعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنةٍ أو سنتين لبنائها قديم أو هي مدينة قديمةٌ ويقال لبعض الأشياء : إنّه قديم وإن لم يكن له سنةٌ (واحدة) ولهذا جاز أن يقال : بَيْتٌ قديمٌ ولم يجز (أن يقال) في العالم : إنه قديم ؛ لأن القِدَم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم بِتَمَادِي الأزمنة عند من (لا) يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه.
قوله :﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ﴾ أي لا يدخل على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه وهو معنى قوله :﴿وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ أي يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته.
وقيل : لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر لا تطلع الشمس بالليل ولا (يطلع) القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك كلّ (واحد) منهما صحبه قامت القيامة.
وقيل :﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ﴾ لا تجتمع معه في فَلَك واحد ﴿وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ أي لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى :﴿لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ﴾ بصيغة الفعل وقوله :﴿وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ﴾ بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل " سَبَقَ " ولا قال : لاَ الشَّمْسُ مُدْرِكَةٌ لِلْقَمر ؟.