أقيم مُقَام الجمع والأول أحسن ؛ إذ المصدر يفرد مطقاً.
فصل قال ابن عباس وأبيّ بن كعب وقتادة : إنما يقولون هذا لأن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة، دعوا بالويل.
وقال (أهل) المعاني : الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا : مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا.
فإن قيل : لو قيل : فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق قال ابن الخطيب : نقول : معاذ الله وذلك لأن قوله إذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون إشارة إلى أنهم تعالى باسرع زمان يجمع أجزاءهم وؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ مع أن ذلك لا بدّ له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال لنيسلون أي نسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم : يا ويلنا قبل أن ينسلوا وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفائدة.
فإن قيل : ما وجه تعلق " مَنْ بعَثنَا مِنْ مَرْقَدِنَا " بقولهم " يَا وَيْلَنَا " ؟ فالجواب : لما بعثوا تذكروا ما كانوا يمسعون من الرسل فقالوا : يَاوَيْلَنَا أبَعَث الله البَعْثَ الموعود به أم كنا نِيَاماً هنا كما إذا كان إنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لايطيقه ثم يَرَى رَجُلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول أهذا ذاك أم لا ؟.
ويدل على هذا قولهم :﴿مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ حيث جعلوا القبور موضع الرُّقَاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نيَاماً فنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من بعثنا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا من مرقدنما إشارة إلى توهمهم احتمال الانْتِبَاه.
قوله :﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمـانُ﴾ في " هذا " وجهان : أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبره ويكون الوقوف تامًّا على قوله :﴿مِن مَّرْقَدِنَا﴾ وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان :
٢٤١
أحدهما : أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى، أو من قول الملائكة، أو من قول المؤمنين للكفار.
الثاني : أنها من كلام الكفار فيكون في محلّ نصب بالقَول.
والثاني من الوجهين الأولي :(أن) " هذا " صفة " لمرقدنا " و " مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ " منقطع عما قبله ثم في " ما " وجهان : أحدهما : أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون حق عليكم وإليه ذهب الزجاج والزمخشري.
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا وعد الرحمن، وقد تقدم في ألو الكهف أن حَفْصاً يقف على " مرقدنا " وقفلةً لطيفة دون قطع نفس لئلا يتوهم أن اسم الإشارة تباع لـ " مَرْقَدِنَا " وهذا الوَجْهَانِ يقويان ذلك المعنى المذكور الذي تعمد الوقف لأجله، و " ما " يصحّ أن تكون موصولة اسمية أو حرفية كما تقدم ومفعولاً الوعد والصدق محذفوفان أي وَعَدَنَاهُ الرَّحْمَنُ وصَدَقَنَاهُ المرسلون والأصل " صدقنا فيه " ويجوز حذف الخاضف وقد تقدم ذلك نحو : صَدَقَنِي سنَّ بكْرِ(هِ) أي في سنه.
قوله :﴿ِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ تقدمت قراءتا :﴿صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [يس : ٥٣] نصباً ورفعاً أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، ويدل على النفخة قوله :﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ ويحتمل أن يقال : إنها كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة على أن " كان " هي التامة بمعنى " ما وقعتْ إلاَّ صَيْحَةٌ " قال الزمخشري : لو كان كذلك لكان الأحسن أن
٢٤٢
يقال : إن كان ؛ لأن المعنى حينئذ ما وقع شيء إلى صيحة لكن التأنيث جائز إحالته على الظاهر ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع إن قوله :﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ [الواقعة : ١] تأنيث تهويل ومبالغة بدليل قوله تعالى :﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ [الواقعة : ٢] فإنها للمبالغة فكذلك ههنا قالك " إنْ كانت إلا موتتنا الأولى " تأنيث تهويل، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحَاقَة والصَّاخَّة إلى غيرها.
والزمخشري يقول : كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة.
وقوله " محضرون " دليل على أنّ كونهم نسلون إجباريّ لا اختياريّ ثم بين ما يكون في ذلك اليوم فقال :﴿فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ فاليوم منصوب " بلاَ تُظْلَمُ " و " شيئاً " إما مفعول ثانٍ وإماغ مصدر.
فقوله :﴿لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ (و) ﴿وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ليَيْأسَ المجرمُ والكافر.
فإن قيل : ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن ؟ فالجواب : أن قوله :﴿لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ يفيد العموم وهو كذلك فإنه لا يظلم أحداً وأما " لا تجزون " فيختص بالكافر لأن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً فيه.
وفيه بشارة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٣٦


الصفحة التالية
Icon