فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتبعاً لحركة الخاء وهو مفقود وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره - فاتبعوا الطاء لحركة الخاء المتوهمة، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى.
وبالجملة فهو تعليل شذوذ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً وهو إتباع كقولهم : نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد.
فصل ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً " فأتبعه " أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقلته أو يحرقه قيل : سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع سمواتٍ.
وقال عطاء : سمي النجم الذي يرمي به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر.
قوله :﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ " أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا " يعني السموات والأرض والجبال.
وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله :﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر : ٥٧] وقوله :﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات : ٢٧] (وقيل : معنى) أَمَّنْ خَلَقْنَا (يعني) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب.
قوله :﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ العامة على تشديد الميم الأصل أَمْ مَنْ وهي " أَمْ " المتصلة
٢٨٣
عطف " من " على " هم " وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثانٍ فالهمزة للاستفهام أيضاً و " مَنْ " مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد، فهما جملتان مستلقتان وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى " بمن " قوله :﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد.
واللازبُ والازمُ بمعنى وقد قرئ : لاَزمٌ لأنه يلزم اليد، وقيل : اللازِبُ اللَّزج.
وقال مجاهد والضحاك : مُنْتِن، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم.
فصل وجه النظم : أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن نم قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله :﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأن يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى.
وأيضاً فقوله :" إنا خلقناهم من طين لازب " يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله :﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ يعني أصلهم وهو آدم - عليه (الصلاة و) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا : كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة ؟ فكأنه تعالى قال لهم : إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما
٢٨٤
بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم : إن الإنسان كيف يحث من غير نطفة ومن غير الأبوين ؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد بقوله :" إنا خلقناهم من طين لازب " أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ، وأما تولد الحيوان الذي صرا غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما تولد من امتزاد الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق (منه) مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها.
وهه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات، وهذه بيانات ظاهرة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٧٥


الصفحة التالية
Icon