قوله :﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ قرأ الأَخَوَانِ بضم التاء والباقون بفتحها فالفتحُ ظاهر وهو ضمير الرسول أو كل من يصح منه ذلك وأما الضم فعلى صرفه للمخاطب أي قُلْ يا محمد بل عَجِبْتُ أنا، أو على إسناده للباري تعالى على ما يليق به وقد تقدم هذا في البقرة وما ورج منه في الكتابِ والسنة.
وعن شُرَيْحٍ أنه أنركها وقال : اللَّهُ لا يَعجَبُ فبلغت إبْرَهِيمَ النَّخَعِيِّ فقال : إنَّ شريحاً كان مُعْجَباً برأيه قرأها مَنْ هو أعلم (منه) ؛
٢٨٥
يعني عبد اللَّهِ بن مسعود وابن عباس والعَجَبُ من الله ليس كالتَّعَجُّب من الآدميين كما قال :﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة : ٧٩] وقال :﴿نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة : ٦٧] فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه والعُجْب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذَّمِّ وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث :" عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ " وقوله :" عَجِبَ رَبُّكُمْ مِن إِلِّكُمْ وقُنُوطِكِمْ وسُرْعَةِ إجَابتِهِ إيَّاكُمْ " وسُئِلَ جُنَيْدٌ من هذه الآية فقال : إن الله لا يعجب من شيءولكن اللَّهَ وافق رسولَه لمَّا عِجِبَ رسولُهُ وقال :﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ أي هو كما تقوله.
قوله :﴿وَيَسْخُرُونَ﴾ يجوز أن يكون استئنافاً وهو الأظهر وأن يكون حالاً والمعنى أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك، وقالد قتادة : عَجِبَ نَبِيُّ الله - ﷺ - من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي - ﷺ - كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب النبي - ﷺ - من ذلك فقال الله تعالى :﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ﴾ وَإِذَاَ ذُكِّرُوا لاَ يّذْكُرُونَ " أي إذا وَعِظُوا بالقرآن لا يَتَّعِظُونَ.
وقرأ (جَنَاحُ) بن حبيش " ذُكِرُوا " مخففاً " وإذا رأوا آية " قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر " يَسْتَسْخِرُون " يسخرون ويستهزئون، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية وقرئ " يستستخرون " بالحاء المهملة " وَقَالُوا إنْ هَذَا
٢٨٦
إلاَّ سِحْر مُبينٌ " (أي سحر بَيِّن) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر.
فصل قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدثون الحَشْر والقيامة وبقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبقوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يخسرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستباد إَلاَّ من وجهين : أحدهما : أن يذكر لهم الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر عل الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل.
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن (ذكر) أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل.
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - ﷺ - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوا ااْ إِن هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ قوله :﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ وهذا بيان للسَّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط (بتراب) الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم.
فهذا الإنسان كيف يعقل عَوْدُه بعينه حيًّا ثانياً ؟ ‍! ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال : قُلْ (لَهُمْ) يا محمد " نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُون " أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون، والدخور أشد الصغار وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه (أمر) ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل
٢٨٧


الصفحة التالية
Icon