و " الجَبِينُ " ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا، وشذ جمعه على أجْبُن، وقياسه في القلة أَجْبِنَه كَأرْغفَةِ وفي الكثرة جُبُن وجُبْنَان كرَغِيفٍ ورُغُفٍ وَرُغْفَان.

فصل والمعنى سلم لأمره الله، وأَسْلَم واسْتَسْلَمَ بمعنًى واحد أي انقاد وخضع.


والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله، وعن قتادة في سلما : أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه، وقوله :﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أي صرعه على شِقِّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جَبِينَانِ والجبهة بينهما.
قال ابن الأعرابي : التَّلِيلُ والمَتْلُون المَصْرُوع والمُتلُّ الذي يُتَلُّ به أي يُصْرَعُ والمعنى أنه صرعه على جبينه وقال مقاتل : كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ﴾.
فإن قيل : لِمَ قَالَ : صَدَّقْت الرؤيا وكان قد رأى الذبح لم يُذْبَحْ ؟ قيل : جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب إسلامها لأمر الله وقد فَعَلاَ.
وقيل : قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير إراقَهَ دَم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال : قد صدقت الرؤيا، قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلَّفه هذا التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمالُ الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى :﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ﴾ وقوله :﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنما كما عَفوْنا عن ذبح ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده ﴿إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ﴾ الاختبار البَيِّنُ الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنةَ أصعبُ منها، وقال مقاتل : البلاء ههنا النِّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش، وقوله :﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ الدِّبْحُ مصدر ذَبَحْتُ والذِّبح أيضاً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية وسمي عظيماً لِسمنِهِ وعِظَمِهِ، وقال سعيد بن جبير : حق
٣٣٦
له أن يكون عظيماً لِعِظَمِ قَدْرِهِ حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم وتقدم الكلام على نظير بقيَّة القصة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٢٩
قوله :﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ " نبياً " نصب على الحال.
وهي حال مقدرة قال أبو البقاء : إنْ كَانَ الذَّبيح إسحاقَ فيظهر كونها مقدرة وإن كان إسماعيل هو الذبيح وكانت هذه البشارةُ بشارة بولادة إسحاق فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال قال : فإن قلت : فرق بين هذا وبين قوله :﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر : ٧٣] وذلك أن الدخول موجود مَعَ وجودِ الدُّخُول والخلود (غير) موجود معهما فقدرت الخلود فكان مستقيماً وليس كذلك المبشر به فإنه معدوم وقت وجود البشارة وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لأن الحال حِلْية لا يقوم إلا في المحلى.
وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده بل تراخت عنه مدة طويلة فكيف نجعل " نبياً " حالاً مقدرة والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به ؟ ‍! فالخلود وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة فنقدرها صفتهم لأن المعنى مقدرين الخلود وليس كذلك النبوة فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق قلتُ : هذا سؤالٌ دقيق المسلك والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف وذلك قوله : وَبشَّرْنَاهُ بوجود إسحاق نبياً أي بأن يوجد مقدّرة نبوتُهُ، والعالم في الحال الوجود لا فعل البشارة، وذلك يرجع نظير قوله تعالى :﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِين﴾ [الزمر : ٧٣] انتهى.
وهو كلام حَسَنٌ.
قوله :﴿مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ يجوز أن يكون صفة " لِنَبِيًّا " وأن يكون حالاً من الضمير في " نَبِيًّا " فتكون حالاً متداخلة، ويجوز أن تكون حالاً ثانية، قال الزمخشري : وَوُرُودثا على سبيل الثَّناء والتَّقْرِيظِ لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصَّالِحينَ.
قوله :﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ﴾ يعني على إبراهيمَ في أولاده " وَعَلَى إسْحَاقَ " بأن أَخْرج جميع بَنِي إِسرائيلَ من صُلْبِهِ.
٣٣٧
وقيل : هو الثناء الحسن على إبراهيم وإسْحَاق إلى يوم القيامة.
" وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ " مؤمن " وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ " أي كافر " مُبِينٌ " ظاهر وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأَب فضيلة الابن لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود، ودخل تحت قوله :﴿مُحْسِنٌ﴾ الأنبياء والمؤمنونَ، وتحت قوله :﴿وَظَالِمٌ﴾ الكافر والفاسق.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٣٧


الصفحة التالية
Icon