يريدون : منَّا فريقٌ ظعَنَ، ومنا فريق أقام، وقد تقدم نحوٌ من هذا في النِّسَاء عند قوله :﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ [النساء : ١٥٩].
وهذا الكلام وما بعده ظاهره أنه من كلام الملائكة، وقيل : من كلام الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
فصل قال المفسرون : يقول جبريل للنبي - ﷺ - :" وَمَا مِنَّا مَعْشَرَ الْمَلاَئِكَةِ إلاَّ له مقام معلوم " أي ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه قال ابن عباس :" ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يُسَبِّح " وقال - عليه (الصلاة و) السلام - :" أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فيهَا مَوْضِعُ أرْبَعَةِ أَصَابعَ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبَهَتَهُ سَاجِدٌ لله " وقال السُّدِّيُّ : إلاَّ له مقام معلوم في القُرْبَة والمشاهدة.
قوله :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ مفعول " الصافاون والمسبحون " يجوز أن يكون مراداً أي الصافون أقْدَامنَا وأجْنِحَتَنَا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى، وأن لا يُرادَ البتة أي نحن من أهل هذا الفعل.
٣٥٧
فعلى الأول يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العُبُودِية لا غيرهم وذلك يدل على أنَّ طاعات البشر بالنسبة إلى طاعات الملائكة كالعَدَم حتى يَصِحَّ هذا الحصر.
قال ابن الخطيب : وكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال : البشر أقربُ درجةً من الملك فضلاً عن أن يقال : هم أفضل منه أم لا ؟ !.
قال قتادة : قوله :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ﴾ هم الملائكة صَفُّوا أقْدَامَهُمْ، وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض.
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ أي المصلون المنزهون الله عن السوء بخير جبريل للنبي - ﷺ - أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح وأنهم ليسوا بمعبودين كا زعمت الكفار، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال :﴿وَإِن كَانُواْ﴾ أي وقد كانوا : يعني أهل ملكة " ليَقولُونَ " لام التأكيد ﴿لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ﴾ أي كتاباً من كتب الأولين ﴿لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ أي لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيِّد الأذكار وهو القرآن، ﴿فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٥٣
قوله :﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ﴾ وهي قوله :﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ﴾ [المجادلة : ٢١] لما هدد الكفار بقوله :﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر : ٣] أردفه بما يقوي قلب الرسول فقال ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ والنُّصْرَةُ والغلبة قد تكون بالحُجَّة وقد تكون بالدولة والاستيلاء وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضَعْفِ أحوال الدنيا فهو الغالب ولا يلزم على هذه الآية أن يقال قد قتل الأنبياء وهزم كثيرةٌ من المؤمنين.
قوله :﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ﴾ تفسير للكلمة فيجوز أن لايكون لها محلٌّ من
٣٥٨
الإعراب، ويجوز أن تكون خبر مبتداً مضمر ومنصوبة بإضمار فعل أي هي أنهم لهم المنصورون أو أعني بالكلمة هذا اللفظ ويكون ذلك على سبيل الحكاية لأنك لو صحرت بالفعل قبلها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً كأنك قلت : عنيت هذا اللفظ كما تقول : كَتَبْتُ زَيدٌ قَائِمٌ، وإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ وقرأ الضحاك :" كَلِمَاتُنَا " جمعاً.
قوله :﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي أعرضْ عنهم " حَتًّى حِين " قال ابن عباس : يعني الموت، وقال مجاهد : يوم بدر، وقال السدي : حتى يأمرك الله بالقتال، وقيل : إلى أن يأتيهم عذابُ الله، وقيل : إلَى فتحِ مكة.
قال مقاتل بن حيان : نسختها آية القتال " وَأَبْصِرْهُمْ " إذا نزل بهم العذاب عن القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة " فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ " ذلك من النصرة والتأييد في الدناي والثواب العظيم في الآخرة فقالوا : متى هذا العذاب ؟ فقال تعالى :﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ أي إن ذلك الاستجعال جهل لأن لكُلّ شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيَّناً لا يتقدم ولا يتأخر.
قوله :﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ العامة على نَزَل مبنياً للفاعل، وعبدُ اللَّهِ مبنياً للمفعول، والجارّ قائم مَقَام فاعله.
والساحة الفناء الخالِي من الأبنية وجمعها سُوحق فألفها عن واوٍ فيُصغَّر على سُوَيْحَةٍ قال الشاعر : ٤٢٣١ - فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لاَ يَسْرَحُوا نَعَماً
أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٥٨