أحدهما : القول المضمر والتقدير والَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ المشرِكُونَ أولياء يقول فيهم المشركون ما نعبدهم إلا.
الثاني : أن الخبر هي الجملة من قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ وقرئ :" ما نُعْبُدُهُمْ " بضم النون إتباعاً للباء، ولا يعتدُّ بالساكن.
قوله :﴿زُلْفَى ﴾ مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه مُلاَقٍ لعامله في المعنى، والتقدير (والمعنى) ليزْلِفُونا ولِيُقَرِّبُونَا قُرْبَى وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً مؤكدة.
فصل والذين اتخذوا من دونه أي من دون الله أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله.
وهذا الضمير عائد إلى الأشياء التي عبدت، وهذا الكلام إنما يليق بالعقلاء لأن الضمير في " نَعْبُدُهُمْ " ضمير العقلاء فيحمل على المسح وعُزَيْر والملائكة لكي يشفعوا لهم عند الله.
ويمكن أن يُحْمَل على الأصنام أيضاً لأن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجرٌ، وإنما يعبد ربه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الملائكة أو تماثيل الصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى أصحاب تلك الصور.
ولما حكمى الله تعالى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه : الأول : أنه اقتصر في الجواب على مجرد القول فقال :﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
واعلم أن المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وأصرّ عليه فعلاجه أن يحتال بحِيلةٍ توجب زَوَالَ والإصرار عن قلبه، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يذكر له الدليل الدالَّ على
٤٧٠
بُطْلاَنِهِ فيكون هذا الطريق أفضى إلى المقصود كما يقول الأطباء : لا بد من تقديم (المُنْضج) على سقي المُسهل، فإن تناول المنضج يصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال، فإذا سقي المُسهل بعد ذلك حصل النقَاء التامّ فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مَجْرَى سَقْي المنضج أولاً، وإسماع الدليل ثَانِياً يجْرِي مَجْرَى المُنْضج المسهل ثانياً.
فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد.
ثم قال اللَّهُ تَعَالَى :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ أي من أصر على الكذب والكفر بقي (مَحـ)ـرُوماً من الهداية.
والمراد بهذا الكذب وصفهم للأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة، ويحتمل أن يكون المراد بالكفر كفران النعمة لأن العبادة نهاية التعظيم وذلك لا يليق إلا ممن يصدر عنه غاية الإنعام وهو الله تعالى، والأوثان لا مدخل لها في الإنعام فعبادتها توجب كفران نعمة المنعم الحق.
قوله :﴿كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ قرأ الحسنُ والأَعْرَجُ - وتُرْوَى عن أنس - كَذَّاب كفار، وزيدُ بنُ عَليٍّ كَذُوبٌ كفورٌ.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٦٤
قوله :﴿لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى ﴾ لاختار ﴿مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ يعني الملائكة كما قال :﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ﴾ [الأنبياء : ١٧] ثم نزه نفسه فقال :﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته ﴿هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ والمراد من هذا الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد.
قوله :﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ لما بين في الآية المتقدمة كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً أي كامل القدرة ذكر عقيبها ما يدل على الاستغناء.
وأيضاً لما أبطل إلهيَّة الأصنام ذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية، وقد تقدم أن الدَّلائل التي يذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إمّا أن تكون فلكية أو أرضيَّة أما الفلكية فأقسام : أحدها : خلق السموات والأرض.
وقد تقدم شرحها في تفسير قوله تعالى :﴿الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأنعام : ١].
وثانيها : اختلاف أحوال الليل والنهار، وهو المراد ههنا من قوله :﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ وفي هذه الجملة وجهان : أظهرهما : أنها مستأنفة، أخبر تعالى بذلك.
والثاني : أنها حال، قاله أبو البقاء، وفيه ضعفٌ من حيث أن تكوير أحدهما على الآخر إنما كان بعد خلق السموات والأرض إلا أن يقال : هي حالٌ مقدرة، وهُو خلاف الأصل.
والتكوير : اللَّفُ واللَّيُّ يقال : كَارَ العَمَامَةَ على رأسه وكَوَّرهَا، ومعنى تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل على هذا المعنى أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا وإذا غشي مكانه فكأنه لف عليه وألبسه كما يلق اللباس على
٤٧٢