اللابس أو أن كل واحد منهما يغيِّب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار أو إن هذا يَكر على هذا كُرُوراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع إكرار العِمَامَة بعضها على بعض قاله الزمخشري.
وهذا أوفق لإشتقاق من أشياء قد ذكرت وقال الراغب : كَوْرُ الشيء إدارته وضمّ بعضه إلى بعض كَكَوْر العِمَامَة، وقوله :﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ إشارة إلى جرَيَان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما.
وكوَّره إذا ألقاه مجتمعاً.
واكْتَار الفرس إذا رد ذَنَبَهُ في عَدُوِهِ، وكَوارَةُ النَّحْل معروفة، والكُور الرَّحْلُ.
وقيل لكل مِصر كُورةٌ وهي البقعة التي يجتمع فيها قرًى ومحال قال ابن الخطيب : إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا، وذلك يدل على أن كل واحد منهما يكون مغلوباً مقهوراً، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهوة وهو الله تعالى، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث :" نَعُوذُ باللَّهِ من الحَوْر بَعْدَ الكَوْرٍ " أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل : من الإدبار عبد الإقبال.
قوله :﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ فإن الشمس سلطانُ النهار، والقمرَ سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطةٌ بها كل يجري لأجل مسمى إلى يوم القيامة لا يزالان يَجْريَانِ إلى هذا اليوم، فإذا كان يوم القيامة ذهبا، والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كَدَوَرَانِ المنْجَنُون على حدٍّ واحدٍ.
ثم قال :﴿أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ ومعناه أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإنْ دلّ على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفارٌ عظيم الرحمة والفضل والإحسان، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكوْنُهُ غفاراً كثير الرحمة يوجب الرجاء والرغبة.
ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أبتعها بذكر الدلائل السفلية فبدأ بذكر الإنسان فقال :﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني آدم.
٤٧٣
قوله :﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا﴾ في " ثم " هذه أوجه : أحدهما : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك أنه يروى أنه تعالى أخرجنا من ظهر آدم كالذَّرِّ، ثم خلق حواء بعد ذلك بزمانٍ.
الثاني : أنها على بابها أيضاً ولكن لمَجْرَكٍ آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله " وَاحِدَةٍ " إذا التقدير من نفس وحِّدَتْ أي انفردت ثم جعل منها زوجها.
(الرابع : أنها للترتيب في الأحوال والرُّتَب، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما وجه قوله :﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وما تعْطيه من التراخي ؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالاً على وحدانيته وقدرته بتشعيب هذا الخلق الثابت للحصر من نفس آدم عليه (الصلاة و) السلام وخلق حواء من قُصَيْرَاه إلا أنّ إحديهما جعلها الله عادة مستمرةً والأخرى لم تجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قُصَيْرَى رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجْلَبَ لعَجَب السامع فعطفها " بِثُمَّ " على الآية الأولى للدلالة على مُبايَنَتِهَا فضلاً ومزيًّة وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهي مِنَ التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود.
قال ابن الخطيب : إن كلمة " ثمَّط كما تجيء لبيان تأخر أحد المكانين عن الآخر كقول القائل : بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ اليَوْمَ ثم ما صَنَعْتَ أَمْسِ أعْجَبُ، وأَعْطَيْتُكَ اليَوْمَ شَيْئاً ثُمَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ أَمْس أَكْثر.
قوله :﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ عطف على " خَلَقَكُمْ " والإنزال يَحْتَمِلُ الحقيقةَ، يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها وَيحْتَمِلُ المجاز وله وجهان :
٤٧٤
أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والماء والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزل عليها وهو في الحقيقة مطلق على سبب السبب كقوله :
٤٢٨٨ - أَسْنِمَةُ الآبضالِ فِي رَبَابِهِ
وقوله :
٤٢٨٩ - صَارَ الثَّرِيدُ في رُؤُوسِ العِيدَانِ
وقوله : ٤٢٩٠ - إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِاَرْضِ قَوْمٍ
رَعَيْنَاهُ وإِنْ كَانُوا غِضَابَا
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٧٢


الصفحة التالية
Icon