والثاني : أن قضاياه وأحكامه منزلةً من السماء من حيث كتبها في الوح المحفوظ، وهو أيضاً سبب في إيجادها وقال البغوي : معنى الإنزل ههنا الإحداث والإنشاء كقوله :﴿أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾ [الأعراف : ٢٦]، وقيل : معناه : أنزل لكم من الأنعام جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى ثمانية أزواج أي ثمانية أصناف، وهي الإبل والبَقَر والضَّأن والمَعِز، وتقدَّم تفسيرها في سورة الأنْعَام.
قوله :﴿يَخْلُقُكُمْ﴾ هذه ا لجملة استئنافية، ولا حاجة إِلى جَعلهَا خبر مبتدأ مضمر بل استؤنفت للإخبار بجملة فعلية، وقد تقدم خلاف القراء في كسر الهمزة في " اُمَّهَاتِكُمْ ".
٤٧٥
قوله :" خَلْقاً " مصدر " خَلَقَ " وقوله :﴿مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ صفة له فهو لبيان النوع من حيث إنه لما وصف زاد معناه على معنى عامله، ويجوز أن يتعلق " مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ " بالفعل قبله، فيكون خلقاً لمجرد التوكيد.
قوله :﴿فِي ظُلُمَاتٍ﴾ متعلق " بخَلْقٍ " الذي قبله، ولا يجوز تعلقه " بخَلْقاً " المنصوب، لأنه مصدر مؤكد، وإن كان أبو البقاء جوزه ثم منعه بما ذكرت فإنه قال : و " في " يَتَعَلَّق به، أي " بخَلْقاً " أو " بخَلْق " الثاني، لأن الأول مؤكد فلا يعمل، ولا يجوز تعلقه بالفعل قبله لأنه قد تعلق به حرف مثله، ولا يتعلق حرفان متحدان لفظاً ومعنى إلا بالبَدَلِيَّةِ أو العطف، فإن جعلت " في ظلمات " بدلاً من ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ بدل اشمتال لأن البطون مشتملة عليها وتكون بدلاً بإعادة العامل جاز ذلك أعني تَعَلُّقَ الجَارَّين بـ " يخْلُقكم " ولا يضر الفَصْلُ بين البَدَل والمبدل منه بالمصرد لأنه من تَتِمَّة العامل فليس بأجنبيِّ.
فصل هذه الحالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات، وقوله :" خلقاً من بعد خلق " معناه ما ذكر الله تعالى في قوله :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ الآيات [المؤمنون : ١٢ - ١٤].
وقوله :﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ قال ابن عباس : ظلمة البطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المشيمة، وقيل : الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الآيات مذكور في قوله :﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ [آل عمران : ٦].
قوله :﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ يجوز أن يكون " الله " خبراً " لِذَلِكُمْ " و " ربُّكُمْ " نعت لِلَّه أو بيان له أو بدل منه ويجوز أن يكونَ " الله " بدلاً من " ذلكم " و " ربكم " خبره، والمعنى : ذَلِكُمُ اللَّهُ الذي خلق هذه الأشياء رَبُّكُمْ.
قوله :﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً بعد
٤٧٦
خبر وأن يكون " الله " بدلاً من " ذلكم " و " ربكم " نعت لله أو بدل منه، والخبر الجملة من " له الملك " ويجوز أن يكون الخبر نفس الجار والمجرور وحده، و " المُلْكُ " فاعل به فهو من باب الإخبار بالمفرد.
قوله :﴿لا اا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون خبراً بعد خبر.
فصل قوله :" له الملك " يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره، ولما ثبت أنه لا مُلْكَ إلا له وجب القول بأن لا إله إلا هو.
ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته وحكمته ورحمته زَيَّف طريقة المشركين وقال :﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ عن طريق الحق بعد هذا البيان، وهذا يدل على أنهم لم يصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفهم عنها غيرُهم وما ذلك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل أحد يريد تحصيل الحق والصواب فلمَّا لم يحصل ذلك فإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه.
واستدلت المعتزلة بهذه الآيات أيضاً لأن قوله تعالى :﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله لم يبق لهذا التعجب معنى قوله :﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ أي إنه تعالى ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الودود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق وأيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة " زَيْدٍ " وصيامِ " عَمْرٍو " وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك.
ثم قال :﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ أي وإن كَان لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، إلا أنه لا يرضى بالكفر.
قال ابن عباس والسدي : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم
٤٧٧