القاضي أمرهم بالتقوى لكي لا يحبطوا إيمانهم بأعمالهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط.
فيقال :(له) : هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه أمر المؤمنين بالتقوى فدل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان.
واعلم أنه تعالى لما أمرَ المؤمنين بالاتِّقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال :﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾.
قوله :﴿فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا﴾ يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، وحذفت صفة " حَسَنَة " إذ المعنى حَسَنَةٌ عظيمة لأنه لا يوعد من عمل حسنة في الدناي حسنة مطلقاً بل مقيدة بالعِظَم، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " حَسَنَة " كانت صفة لها فلما تقدمت بَقِيَتْ حَالاً.
فصل قوله :﴿فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا﴾ يحتمل أن يكون صلة لقوله :﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ﴾ أي آمنوا وأَحْسَنُوا العمل في الدنيا حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة، والتنكير في " حسنة " للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها، قاله مقاتل.
ويحتمل أن يكون صلة لقوله :" حَسَنَة " وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه الدنيا حسنة يريد الصحة.
قال ابن الخطيب : الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله ﷺ :" ثَلاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايةٌ الأَمْنُ والصِّحَّةُ والكِفَايَةُ " وقال بعضهم : الأول أولى لوجوه : أحدها : أن التنكير يفيد النهاية في التعظيم والرفعة، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا لأنها خَسيسةٌ منقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة.
وثانيها : أن الثوابَ للتوحيد والأعمال الصالحة إنما يَحصل في الآخرة، وأما الأمن والصحة والكفاية فحاصل للكافر أكثر من حصولها للمؤمنين كما قال - عليه (الصلاة و) السلام :- " الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ".
٤٨٦
وقال تعالى :﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ﴾ [الزخرف : ٣٣].
وثالثها : قوله :﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾ يفيد الحصر، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل.
أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحَصْرُ فكان حمله على حسنة الآخرة أولى.
قوله :﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾ قال ابن عباس : يعين ارتحلوا من مكة، وفيه حَثٌّ على الهجرة من البلد الَّذِي يظهر فيه المعاصي، ونظيره قوله تعالى :﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوا ااْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ [النساء : ٩٧].
وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهربْ، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة ؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى :﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ﴾ [الزمر : ٧٤] وقوله تعالى :﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران : ١٣٣] قال ابن الخطيب : والأول عندي أولى لأن قوله :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يليق إلا بالأول.
قوله :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا قوله :﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير نهاية ؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناهٍ فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب قال عليٌّ - رضي الله عنه - : كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً الصابرين فإنه يُحْثَى لهم حثياً، يروى : أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانٌ ولا ينشر لهم دوانٌ ويُصَبّ عليهم الأجر صَبًّا قال الله تعالى :﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ما ذهب به أَهل البلاء من الفضل.
٤٨٧
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٨٥