شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} وهذا أمر توبيخ وتهديد.
والمراد منه الزجر كقوله :﴿اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت : ٤٠].
ثم بين كمال الزجر بقوله :﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا ااْ أَنفُسَهُمْ﴾ أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهاليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده البتة.
وقيل خُسْرَان النفس بدخول النار وخُسْرَان الأهل أن يفرق بينه وبين أهله.
ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخُسْرَانَ (المبينَ بالفظاعة فقال : أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ) المُبِينُ "، وهذا يدل على غاية المبالغة من وجه : أحدها : أنه وصفهم بالخُسْرَانِ، ثم أعاد ذلك بقوله :" ألا ذلك هو الخسران المبين " وهذا التكرير لأجل التأكيد.
وثانيها : ذكره حرف " أَلاَ " وهو للتَّنْبِيهِ، وذكر التنبيه يدل على التعظيم كأنه قيل : بلغ في العِظَم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا لَهُ.
وثالثها : قوله :﴿هُوَ الْخُسْرَانُ﴾ ولفظ " هو " يفيد الحصر كأنه قيل : كل خسران يصير في مقابلته كلا خسران.
ورابعها : وصفه بكونه خسراناً مبيناً وذلك يدل على التهْويل.
قوله :﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ﴾ يجوز أن يكون الخبر أحد الجَارين المتقدمين وإنْ كان الظاهر جَعْلَ الأول هو الخبر، ويكون " مِنْ فَوْقِهِمْ " إما حالاً من " ظُلَلٍ " فيتعلق بمحذوف، وإما متعلقاً بما تعلق به الخبر و " مِنَ النَّار " صفة لظُلَلٍ، وقوله :﴿وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ كما تقدم.
وسماها ظللاً بالنسبة لمن تحتهم، ونظيره قوله :﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف : ٤١].
وقوله :﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [العنكبوت : ٥٥] والمعنى أن النارَ محيطة بهم من جميع الجوانِبِ.
فإن قيل : الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة ؟ فالجواب من وجوه : الأول : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضِّدِّيْن على الآخر، كقوله :﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى : ٤٠].
الثاني : أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار درجات كما أن الجنة دَرَجَاتٌ.
٤٩٠
الثالث : أن الظلة التحتانية وإن كانت مشابهة للظلة الفوْقَانيّة في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة.
قوله :﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ وقوله :" الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ " خبر، والتقدير ذلك العذاب المعدّ للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين، لأن لفظ العباد في القرآن يختص بأهل الإيمان، وقيل : تخويف للكفار والضلال والأول أقرب لقوله بعده :﴿يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ والظاهر أن المراد منه المؤمنون.
قوله :﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ الذين مبتدأ، والجملة من " لَهُمُ الْبُشْرَى " الخبر، وقيل :" لَهُمْ " هو الخبر نفسه، و " الْبُشْرَى " فاعل به.
وهذا أولى لأنه من باب الإخبار بالمفردات والطّاغوت قال الزمخشري : فَعَلُوتٌ من الطُّغْيَان كالمَلَكُوتِ والرَّهَبُوت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العبين لما ذكر وعيد عبدةِ الأصنام ذكر وَعْدَ من اجْتَنَبَ عبادتها واحْتَرَزَ عن أهل الشرك ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمالُ الترغيب والترهيبِ.
قيل : المراد بالطاغوت هنا : الشيطان.
فإن قيل : إنما عبدوا الصنم.
فالجواب : أن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان الشيطان هو الداعي كانت عبادة للشيطان، وقيل : المراد بالطاغوت : الصنم وسميت طَوَاغِيتَ على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها، (والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان بسبب عبادتها والقرب منها وُصِفت بذلك) إطلاقاً لاسم السبب على المسِّبب بحَسَبِ الظاهر.
وقيل : الطاغوت كل من يُعْبَدُ ويطاع دون الله.
نقل (ذلك) في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم (كانوا) مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نورٌ عظيم وأن الملائكة أنواع مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صورها على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون
٤٩١