تلك التماثيل عل اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.
قوله :﴿أَن يَعْبُدُوهَا﴾ الضمير يعود على الطَّاغوت لأنها تؤنث، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في البقرة و " أَنْ يَعْبُدُوها " في محل نصب على البدل من " الطّاغوت " بدل اشتمال كأنه قيلك اجْتَنَبُوا عبادَة الطاغوت.
قوله :﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ من إيقاع الظاهر موقع المضمر أي فبشِّرْهُم أي أولئك المجتبين، وإنما فعل ذلك تصريحاً بالوصف المذكور.
فصل الذين اجتنبوا الطاغوت أي أعرضوا عن عبادة ما سوى الله وأنابوا أي رَجَعُوا بالكلية إلى الله وأقبلوا بالكلية على عبادة الله.
ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء : أحدها : قوله :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ وهذه البشرى تحصل عن القرب من الموت وعند الوضع في القبر، وعند الخروج من القبر، وعند الوقوف في عَرْصَة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير، ففي كل موضع من هذه المواضع تحصل البشارة بنوع من الخير، وهذا المُبَشَّر يحتمل أن يكون هم الملائكة عند الموت لقوله :﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلا اائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ﴾ [النحل : ٣٢] أو بعد دخول الجنة لقوله :﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد : ٢٣ - ٢٤] ويحتمل أن يكون هو الله تعالى كما قال :﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ﴾ [الأحزاب : ٤٤]، ثم قال ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ وهم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم.
وهذه الآية تدل على وجوب النظر والاستدلال لأنه مدح الإنسان الذي إذا سمع أشياء كثيرة يختار منها ما هو الأحسن الصوب وتمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يتأتى بالمساع وإنما يحجة العقل.
واختلفوا في المراد باتِّباع الأحْسَنِ، فقيل : هو مثل أن
٤٩٢
يسمع القصاص والعفو فيعفو، لأن العفو مندوب إليه لقوله :﴿وَأَن تَعْفُوا ااْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة : ٢٣٧] وقيل : يسمع العزائم والرخص فيتبع الأحسن وهو العزائم، وقيل : يستمعون القرآن وغير القرآن فيتعبون القرآن وروى عطاء عن ابن عباس : آمن أبو بكر بالنبي - ﷺ - فجاءه عثمان وعبدُ الرحمن بن عوف وطلحةُ والزبيرُ وسَعْدُ بنُ أبي وقاص وسِعِيدُ بن زيدٍ فسألوه فأخبرهم بإيمانه فأمنوا فنزل فيهم :﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ وقال ابن الخطيب : إنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشهبات وتزييفها نَعْرض تلك المذاهب وأضدادها على عقلونا فكل ما حكم به أو العقل بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول، مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن (إله العالم حي علام قادر حيكم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك لامذهب ألوى والإقرار) بأن الله لا يجري في سلطان الله على خلاف إرادته، والإقرار بأن الله تعالى فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعِّضاً، مؤلفاً، وأيضاً القول باستغنائه عن المكان والزمان أولى من القول بأنه لايستغني عنه ألبتة، فكل هذه الأبواب داخلة تحت قوله :﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ فهذا في أبواب الاعتقادات وأما أبواب التكاليف فهي قسمان : عبادات ومعاملات، أما العبادات فكقولنا : الصلاةُ التي يذكر في تحريمها : الله أكبرُ وهي بِنيّة ويقرا فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة وتيُتَشَهَّد فيها ويخرج منها بالسلام فلا شَكّ أنها أحسن من تلك التي لا يُراعى فيها شيء من هذه الأحوال، فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها، وكذا القول في جميع أبواب العبادات.
وأما المعاملات فكما تقدم في القَصَاص والعفو عنه، وروي عن ابن عباس : أن المراد منه أن الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسنُ ومساوئُ فيحدِّث بأحسنِ ما سمع وَيتركُ ما سواه.
قوله :﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ﴾ الظاهر أنه نعت " لعبادي "، أو بدل منه، أو بيان له،
٤٩٣
وقيل : يجوز أن يكون مبتدأً، وقوله :﴿أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ﴾ إلى آخره خبره، وعلى هذا فالوقف على قوله :" عِبَادِي " والابتداء بما بعده.
قوله :﴿أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَـائِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ قال ابن زيد : نزلت :" والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها...
" الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهية يقولون : لا إله إلا الله زيدُ بنُ عمرو وأبو ذر الغِفَاري وسلْمان الفارسيّ، والأحسن قول لا إله إلا الله وفي هذه الآية لطيفة وهي أن حصولَ الهداية في العقل والروح حادث فلا بدّ له من فاعل وقاتل أما الفاعل فهو الله تعالى وهو المراد من قوله ﴿أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ وأما القائل فإليه الإشارة بقوله :﴿وَأُوْلَـائِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف والحقيقة في قلبه.