قلت : العامل فيه " إذا " الفجائية تقديره وقت ذِكْرِ الَّذِينَ من دونه فَاجَأوا وَقْتَ الاستبشار.
قال أبو حيان : أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو وهو أن الظرفين مَعْمولاَن " لِفَاجَأُوا " ثُمَّ " إذا " الأول تنصب على الظرفية والثانية على المفعولية وقال الحَوْفي :" إذَا هُمْ يَسْتبشرُونَ " " إذَا " مضافة إلى الابتداء والخبر، و " إذا " مكررة للتوكيد، وحذف ما يضاف إليهن والتقدير : إذا كان ذلك هم يَسْتَبْشِرونَ، فيكون (هم يستبشرون) هو العامل في " إذا " المعنى : إذا كان كذلك استبشروا.
قال أبو حيان : هذا يبعد جداً عن الصواب إذا جعل " إذَا " مضافة إلى الابتداء والخبر، ثم قال و " إذا " مكررة للتوكيد وحذف ما يضاف إليه إلى آخره كلامه (فإذا كانت إذا حذف ما يضاف إليه) فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هو " هم يستبشرون "! وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحذف فيه، انتهى.
قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة تحامل على أهل العلم المرجوع إليهم فيهم واختار ابو حيان أن يكون العامل في " إذا " الشرطية الفعل بعدها لا جوابها وأنها ليست مضافة لما بعدها سواء كانت زماناً أم مكاناًأما إذا قيل : إنها حرف فلا يحتاج إلى عامل وهي رابطة لجملة الجزاء بالشرط كالفاء.
والاشْمِئزَازُ النفور والتَقَبض وقال أبو زيد : هو الذعر، اشمأزَّ فُلاَنٌ أي ذعر ووزنه افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ، قال الشاعر :
٥٢٣
٤٣٠٢ - إذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اشْمَأَزَّتْ
ووَلَّتهُ عَشَوْزَنَه زَبُونَا
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٥١٩
خشري : ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما في بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى يظهر ذلك السرور في أَسِرَّة وجهه ويتهلَّل، والاشمئزاز أن يعظم " غَمُّه) وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٥١٩
ولما حَكَى هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال :﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ روى أبو سلمة قال سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله - ﷺ - صلاته بالليل ؟ قالت : كان يقول :" اللَّهُمَّ رَبِّ جبريلَ وميكائلَ وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عابدك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنِي لم اختلف فيه الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم ".
ولَمَّا حكى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء : أولها : أن هؤلاء الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأمور وملكوا مثله معه جعلوا الكل فِدْية لأنفسهم من العذاب الشديد.
وثانيها : قوله :﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ أي ظهرت لهم أنواع من العذاب لم يكن في حسابهم، وهذا كقوله - عليه (الصلاة و) السلام - في صفة الثواب في الجنة :" فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر " فكذلك حصل في العقاب مثله وهو قوله :﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ وقال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتبسوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة.
وقال السدي : ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا.
وثالثها : قوله تعالى :﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ أي مساوئ أعمالهم من الشرط وظلم أولياء الله " وَحَاق بهِمْ " أي أحاظ بهم من جميع الجوانب ﴿مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم.
قوله :﴿لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ يجوز أن يكون " ما " مصدرية أي سيئات كَسْبِهم أو بمعنى الذي أي سيئات أعمالهم التي اكتسبوها.
قوله :﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا...
﴾ الآية.
وهذه حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وهي أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفَقْر والمَرَضُ يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك البلاء لا يكون إلا منه، ثم إنه تعالى إذا خَوَّله أعطاه نعمة يقول : إنما أوتيته على علم أي علم من الله أني أهل له.
وقيل : إنْ كان ذلك سعادة في الحال أو عافية في النفس يقول إنما حصل له ذلك بجدِّه واجتهاده، وإن كان مالاً يقول : إنما أوتيته بكسبي وإن كان صحة قال : إنما حصل بسبب العلاج الفلاني، وهذا تناقض عظيم، لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله وفي حال السلام والصحة قطعه من الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح.
٥٢٤