قوله (تعالى) :﴿قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ....
الآية لما ذكرالوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله، قيل : في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب، في قوله :﴿مِن رَّحْمَةِ اللَّه﴾ ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله :" إنَّ الله، ومنها : إبراز الجملة من قوله " إنَّه هُو الغَفُور الرحيم " مؤدكة بـ " إنّ "، وبالفصل، وبإعادة الصِّفَيَتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة.
فصل روى سعيدُ بْنُ جُبَيْر عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي - ﷺ - وقالوا : إن الذين تدعو إليه لحسن إنْ كان لما عَمِلْنَا كفارة فنزلت هذه الآية، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وَحْشِيّ قاتِل حمزة حين بعث إليه النبيّ - ﷺ يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى يدنك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زَنَا ﴿يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ [الفرقان : ٦٨، ٦٩] وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله :﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً﴾ [الفرقان : ٧٠]
٥٢٧
وَحْشيّ : هذا شرط شديد لَعَلِّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله - عز وجل - :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء : ١١٦] فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى :﴿قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ قال وحشي : نعَمْ هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة " قال : بل للمسلمين عامة.
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي رَبيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافْتَتَنُو وكمنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عَدْلاً أبداً (قوم) قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب فيه، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيه ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عبياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فصل دلت هذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جارٍ بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً﴾ [الفرقان : ٦٣] وقال :﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان : ٦] وإذا كان لفظ العبد مذكوراً في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله :﴿يا عِبَادِيَ﴾ مختص بالمؤمنين، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد الللات وعبد العُزى (وعبد المسيح) وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى :﴿قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ عام في جميع المسرفين، ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وهو المَطْلُوبُ.
فإن قيل : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لَزِمَ القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فسقط الاستدلال، وأيضاً فإنه تعالى قل عقيب هذه الآية ﴿وَأَنِيبُوا ااْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ﴾ الآية، ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب قطعاً لما أم عقيبه بالتوبة، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال :﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾ الآية ؛ وأيضاً لو كان المراد منا دل عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراءً بالمعاصي
٥٢٨


الصفحة التالية
Icon