وتسال عن ركبانها أين يمموا
والثاني : أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله :﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾ والفرق بين الوجهين أن الأول يكون فيه الكون مُتَمنَّى ويجوز أن تضمر " أن " وأن تُظْهرَ والثاني يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمني لا متمنِّي ويجب أن تضمر " أن ".
قوله :﴿بَلَى﴾ حرف جواب وفيما وقعت جواباً له وجهان : أحدهما : هو نفي مقدر، قال ابن عطية : وحق " بلى " أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، كأن النفس قال : لم يتسع لي النظر أو لم يبين لي الأمر قال أبو حيان : ليس حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى، وكذا وقع في عبارة سيبويه نفسه.
٥٣٤
والثاني : أن التمني المذكور وجوابه متضَمِّنان لنفي الهداية كأنه قال : لم أهتدِ فرد الله عليه ذلك.
قال الزجاج :" بلى " جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأنه قوله :" لو أن الله هداني " أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر " بلى " بعده.
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله : لو أن اله هداني ولم يفصل بينهما قلت : لأنه لا يخلوا إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن يؤخر القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير النظم بالجمع بين القراءتين، وأما الثاني فلِما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريق في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنِّي الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب.
قوله :﴿جَآءَتْكَ﴾ قرأ العامة بفتح الكاف " فَكَذَّبْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ " بفتح التاء خطاباً للكافرين دون النفس.
وقرأ الجَحْدَريُّ وأبو حَيْوَة وابنُ يَعْمُرَ والشافعيُّ عن ابن كثير وروتها أم سملة عنه - عليه (الصلاة و) السلام - بها قرأ أبُو بكر وابنتُه عائشةُ - رضي الله عنهما - بكسر الكاف والتاء ؛ خطاباً للنفس والحَسَنُ والأعرجُ والأعمشُ " جَأتْكَ " بوزن " جَعَتْكَ " بهمزة دون ألف ؛ فيحتمل أن يكون قصراً كقراءة قُنْبُل ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق : ٧] وأن يكون في الكلمة قلبٌ بأن قُدّمتِ اللام على العين فالتقى ساكنان، فحذفت الألف لالتقائهما نحو : رُمْتُ وغُزْت، ومعنى الآية يقال لهذا القائل : بَلَى قَدْ جَاءتُكَ آيَاتِي يعني القرآن " فكذبت " وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من الكافرين.
٥٣٥
قوله :﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ العامة على رفع ﴿وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ وهي جملة من مبتدأ وخبر، وفي محلها وجهان : أحدهما : النصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية، وكذا أعربها الزمخشري ومنْ مذهبه أنه لا يجوز إسقاط الواو من مثلها إلا شاذاً تابعاً في ذلك الفراء، فهذا رجوع منع عن ذلك.
والثاني : أنها في محل نصب مفعولاً ثانياً، لأن الرؤية قلبية وهي بعيد لأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما، وقرئ :" وُجُوهَُمْ مُسْوَدَّةً " بنصبهما على أن " وجوهم " بدل بعض من " كل "، و " مسودة " على ما تقدم من النصب على الحال أو على المفعول الثاني.
وقال أبو البقاء : ولو قرئ وجوهم بالنصب لكان على بدل الاشتمال، قال شهاب الدين : قد قرئ به والحمد لله ولكن ليس كما قال : على بدل الاشتمال بل على بدل البعض، وكأنه سبقُ لسانٍ أو طُغْيَانُ قَلَم.
وقرأ أبيّ أُجُوهُهُمْ بقلب الواو همزةً وهو فصيح نحو :﴿أُقِّتَتْ﴾ [المرسلات : ١١] وبابه، وقوله :﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عن الإيمان.
قوله :﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ﴾ قرأ الأَخوان وأبو بكر بمَفازَتهم جمعاً لمَّا اختفت أنواع المصدر جُمْعَ كقوله تعالى :﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ﴾ [الأحزاب : ١٠]، ولأن لكل متق نوعاً آخر من المفازة، والباقون بالإفراد على الأصل.
٥٣٦
وقيل : ثم مضاف محذوف أي بدَوَاعِي مفازتهم أو بأسبابها.
والمفازَةُ المنجاة، وقيل : لا حاجة إلى ذلك، وإذ المراد بالمفازة الفلاح.
قال البغوي : لأن المفَازَةَ بمعنى الفَوْز أي يُنَجِّيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة.
وقال المبرد : المَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ من الفَوْز والجمع حَسَنٌ كالسَّعَادَة والسَّعَادَاتِ.
قوله :﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السُّواءُ﴾ يجوز أن تكون هذه الجملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ فقيل :" لا يمسهم السوء " فلا محل لهان ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من " الَّذِينَ اتَّقوا ".
ومعنى الكلام لا يصيبهم مكروهٌ ولا هم يحزنون.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٥٢٧


الصفحة التالية
Icon