كيف يقول فرعون ذلك فيقر بأنَّ ثمَّ من يهدي إلى الرشاد غيره مع أنه يدعي أنه إله.
وهذا الذي عزاه ابن عطية والزمخشري وابن جبارة صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس هو في " الرَّشَادِ " الذي هو في كلام فرعون كما توهموا، وإنما هو في " الرَّشَادِ " الثاني الذي هو من قول المؤمن بعد ذلك.
ويدل على ذلك ما روى أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : وقرأ معاذ بن جبل سبيل الرشاد الحرف الثاني بالتشديد وكذلك الحسن وهو سبيل الله تعالى أوضحه لعباده كذلك فسره معاذ (بن جبل) وهو منقول من مُرْشِد كدَرَّاك من مدرك، وجبار من مجبر، وقصَّار من مقصِر عن الأمر، ولها نظائر معدودة فأما قصّار الثوب فهو من قصرت الثوب قِصَارَةً.
مفعلى هخذا يزول إشكال ابن عطية المتقدم ويتضح القراءة والتفسير.
وقال أبو البقاء وهو الذي يكثر منه الإرشاد أو الرشد يعني أنه يحتمل أن يكون من " أَرْشَدَ " الرباعي، أو " رَشَدَ " الثلاثي، والأولى أن يكون من الثلاثي لما عرفت أنه ينقاس دون دو الأول.
قوله :﴿يا قَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ﴾ اعلم أنه تعالى (لما) حكى عن ذلك المؤمن أنه (كان) يكتم إيمانه والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل ههنا قولان : الأول : أن فرعون لما قال ذروني أقْتُلْ موسى لم يصرِّح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه على دين فرعنون إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي إبقاء موسى ؛ لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة، وهذا لا يوجب القتل، فالإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بقبح الكلمات بل الأولى تأخير قتله ومنعه من إظهار دينه لأنه إن كان كاذباً فَوَبَالُ كَذِبِهِ عليه، وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه.
ثم أكد ذلك بقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ يعنى أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب،
٤٥
فأوهم بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ أنه يريد موسى، وإنما كان يقصد به فرعون ؛ لأن المسرف الكذاب هو فرعون.
والقول الثاني : أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً فلما قال فرعون ذروني أقتل موسى أزال الكتمان وأظهر أنه على دين موسى وشَاقَّ فرعون بالحق وقال : يا قوم إنِّي أخاف عليكم مثلَ يوم الأحزاب أي مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليومَ إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود، وكان لكل حزب يوم في العذاب اقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس.
قوله :" مِثْلَ دأبِ " يجوز أن يكون " مثل " بدلاً، وأن يكون عطف بيان والمعنى مثل دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي دائماً لا يفترون عنه.
ولا بدّ من حذف مضاف يريد م ثل جزاء دأبهم.
والحاصل أنه خوفهم الهلاك في الدنيا ثم خوفهم هلاك الآخرة ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾ أي لا يُهْلِكُهُمْ قبل إقامة الحجة عليهم، والمقصود التنبيه على عذاب الآخرة يعنى أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً بأنهم استوجبوه بتكذيبهم الأنبياء، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هنا.
قالت المعتزلة : وما الله يريد ظلماً للعباد يدل على أنه لا يريد أن يظلم العباد، ولا يريد الظلم من أحد العباد التبة، ولو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد، لأنه لو خلقها لأرادها، وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل التمدح بترك الظلم، وهذا الاستدلا ل قد تقدم مراراً مع الجواب.
قوله (تعالى) :﴿ ويا قوم إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ التناد تفاعل من النداء يقال : تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضاً، والأصل : الياء، وقد تقدم الخلاف في يائه كيف تحذف والأصل تَنَادُياً ـ بضم الدال ـ ولكنهم كسروها ؛ لِتَصحذَ الياءُ.
وقرأت طائفة بسكون الدال إجراء للوصل مجرى الوقف، وتنادى القوم أي نادى بعضهُم بَعْضاً، قال (الشَّاعِرُ ـ رَحِمَهُ الله ـ) :
٤٦
٤٣٣٧ـ تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِساً
فَقُلْنَا عُبَيْدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٦
وقال آخر : ٤٣٣٨ـ تَنَادَوْا بَالرَّحِيلِ غَداً
وَفِي تَرْحَالِهِمْ نَفْسِ


الصفحة التالية
Icon